خواطر في عيد الميلاد*
إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي، دده – الكورة
“هوذا يكون لكم فرح عظيم… لأنّه يولد لكم اليوم مخلّص المسيح الربّ في مدينة داود” (لو 2: 10-11). هذا ما يقوله لنا إنجيل الساعة الثالثة من برامون عيد الميلاد.
كلّ واحد منّا له مسيرته الخاصّة إلى بيت لحم لكي يسجد للطفل المولود جديدًا، الإله قبل الأزل. إنّ منشئي التسابيح الملهمَين من الله يدعوننا من خلال التراتيل العذبة الألحان لكي نسير إلى بيت لحم، مماثلين المجوس، لتقديم فضائلنا بمثابة الهدايا: “هلمّوا يا مؤمنون ننظر أين يولد المسيح” (). وأمّا الكنيسة، أمّنا الحنون، فترشدنا في مسيرتنا هذه وتقودنا عبر التسابيح والقراءات التي تتوالى طيلة الأسابيع التي تسبق العيد، بالإضافة إلى فترة الصوم التي تفرضها بهدف التوبة، لنلاقي طفل المغارة بقلوب نقيّة.
إنّ مشاركة إنسان اليوم الشخصيّة للاحتفال بعيد الميلاد تقتصر على التحضيرات اليوميّة وتقديم التمنيّات، أو تنحصر بالتسليات والسهرات وتبادل الهدايا، معتقدًا أنّه هكذا يُحتفَل بهذا العيد المقدّس، غير مدرك أنّه بهذه الطريقة العالميّة يفرّغ العيد من مضمونه الأساس والجوهريّ.. نعم، هكذا صار الاحتفال بهذا الحدث الإلهيّ بالنسبة للغالبيّة العظمى من الناس، أي اعتباره إمّا فرصة تجاريّة يكدّسون بواسطتها الأموال، أو مناسبة اجتماعيّة يلتقون فيها مع بعضهم البعض، أو تقليد عائليّ تجتمع فيه العائلات حول موقد النار للسهر والسمر، أو للترويح عن النفس من ضغط العمل ومتطلّبات الحياة باللجوء إلى السفر واللهو. كما يكتفي البعض بالإعراب عن مشاركتهم الآخرين إمّا بمدّ الموائد وبسط الأطعمة والأشربة المختلفة بسخاء، أو التعبير عن مشاعرهم من خلال بطاقات المعايدة كأدنى ما تكون المشاركة.
لم يرسل المجوس هداياهم للطفل المولود في بيت لحم بريديًّا كما نفعل نحن اليوم، بل تجشّموا سفرًا طويلاً شاقًّا وخطرًا لكي يسجدوا له، مقدّمين له، أوّلاً، ذواتهم ونفوسهم، ثمّ بعد ذلك هداياهم المادّيّة الثمنية. وعلى هذا، فإنّ مسيرتنا الشخصيّة للسجود للطفل الإلهي تقتضي تعبًا، وتستلزم جهادًا وحياة روحيّة حارّة، وتتطلّب انفصالاً، ليس مكانيًّا، بل معنويًّا، عن الاهتمامات المعيشيّة والمصالح اليوميّة. فالرعيان هجروا قطعانهم التي كانت تشكّل مصدر عيشهم وثروتهم، وبادروا مسرعين إلى المغارة. والمجوس تركوا وطنهم، وتخلّوا عن مركزهم الاجتماعيّ المرموق، وساروا نحو المجهول يقودهم نجم لامع غير حاسبين حسابًا لتعب أونصب. إذًا، المسيرة نحو بيت لحم تتطلّب تضحية وبذلاً.
المسيح يولد: يستعمل عادة كاتبو التسابيح الزمن الحاضر في تآليفهم، مشيرين بذلك إلى ازدواجيّة الزمن لعيد الميلاد. فنحن لا نعيّد لحدث جرى في الزمن البعيد وصار الآن من الماضي السحيق، بل حدث يجري الآن. من البديهيّ القول بأنّ ميلاد المسيح، كحدث تاريخيّ، تحدّد بدقّة، ولكن كنسيًّا ولاهوتيًّا، فميلاد الكلمة الإلهيّ يشكّل حاضرًا مستمرًّا أو ممتدًّا إلى ما لا نهاية، يحصل، كلّ يوم، في نفس كلّ مؤمن. ليس المجوس والرعاة أشخاصًا منفصلين عن الماضي، ولكنّهم يمثّلون البشريّة كافّة في أزمنتها المتلاحقة كلّها. فالرعاة يمثّلون اليهود المتنصّرين بينما المجوس يمثّلون الأمم. الرعاة يمثّلون الشعب البسيط فيما يمثّل المجوس الشعب المثقّف. لذا، فنحن جميعًا نأتي، بشخصهم، لنسجد في المغارة للمولود الإلهيّ.
لهذا السبب، فالصوت الملائكيّ القائل “هاءنذا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب” موجَّه لكلّ واحد منّا. كلّ كلمة في هذه الآية لها معناها الخاصّ وعمقها الخاصّ، ولكنّنا سنتوقّف على معانٍ ثلاث:
1) هاءنذا: الملاك يبشّر بأمر مفرح للغاية، بأمر وشيك الحدوث، بأمر مقرّر. أبشّركم بميلاد مخلّص. إنّه ليس كميلاد سائر البشر، إنّه ميلاد يحدث لخلاصكم، لتحرّركم من اللعنة القديمة. في حدث تجسّد الكلمة الإله تعترضنا تجربة لا يدركها إلاّ الذين يملكون عيونًا روحيّة مفتوحة فقط، وآذانًا روحيّة رهيفة السمع. تجربة تعرّض لها رؤساء الكهنة والكتبة الذين أجابوا، للحال، على سؤال هيرودس: “أين يولد المسيح؟”، فأوردوا نبوءة كانوا يعرفونها حقّ المعرفة بدليل أنّهم أجابوا بها من دون تلكّؤ ولا تفكير، بيد أنّهم كانوا عاجزين عن إدراك كنهها ومدلولها بأنّ معطي الشريعة وتمام رجاء إسرائيل وماسيّا المسيح وُلد قريبًا منهم جدًّا. نعم، كانت لهم عيون ينظرون بها ولكنّهم لا يبصرون، ولهم آذان يسمعون بها، ولكنّهم لا يفهمون “فمن أجل هذا خطيئتهم ثابتة” (يو 9: 41). المسيرة نحو بيت لحم تتطلّب عيونًا تبصر الخلاص، وآذانًا تصغي لكلمة الخلاص، وإلاّ لوقعنا، نحن أيضًا، في تجربة رؤساء الكهنة والكتبة عينها.
2) أبشّركم: إنّ بُشراي هي لكم، أنتم القلّة، وليس لجميع الناس. الإنجيل هو رسالة الخلاص المفرّحة، رسالة ميلاد المسيح هي رسالة شخصيّة. فالربّ يتكلّم مع كلّ واحد منّا بلسانه، من خلال تجاربه، بحسب عاداته وتقاليده. فللمؤمنين البسطاء من الرعاة واليهود كلّمهم بظهور الملائكة، بالقوّات السماويّة غير الهيوليّة الذين كانوا يعرفونها ويقرأون عنها. وللمجوس، الذين لم يكونوا على عبادة بني إسرائيل، كلّمهم بظهور نجم غير اعتيادي في قبّة السماء كانوا يلحظون تحرّكاته يوميًّا. الربّ يتكلّم مع كلّ واحد منّا محترمًا حرّيّته وشخصيّته من دون أن يرغمه على اتّباع إيمان محدَّد أو معيّن.
لم يظهر الملاك لجميع قاطني بيت لحم، بل، فقط، للذين كانوا مهيَّئين روحيًّا لتقبّل الرؤيا الإلهيّة. لم يكن النجم باديًا لكلّ منجّمي بابل، بل، فقط، لأولئك المجوس الثلاثة الذين ذكرهم الإنجيل. كان المارّون كثرًا أمام المغارة المقدّسة، ولكنّ الساجدين كانوا قليلين، فإلى أيّ فريق نحن ننتمي؟
3) فرح عظيم لكلّ الشعب: إنّ هذا الفرح، فرح الخلاص هو لكلّ الشعب. أشخاص قليلون استحقّوا، أو بالأحرى أُهِّلوا، للسجود للمولود الجديد المخلّص، وتلقّوا الوصيّة والرسالة وواجب إعلان الفرح لكلّ المشاركين لهم بالطبيعة البشريّة. صار الرعاة رسلاً في محيطهم، لأنّ الإنجيل يقول: “بأنّ كلّ من سمع تعجّب ممّا قال لهم الرعاة” (لو 2: 18). وفي البيت العاشر من مديح العذراء نقرأ: “إنّ المجوس لمّا صاروا كارزين متوشّحين بالله عادوا إلى بابل إذ قد أكملوا وحيك وبشّروا الكلّ أنّك المسيح…”. من هنا نفهم أنّه توجد دعوة لكلّ واحد منّا ليصير رسولاً بين قومه حيث اللغة الواحدة التي تجعل الكرازة أكثر سهولة، ومن دون خطر. يقول القدّيس غريغوريوس اللاّهوتيّ: “المؤمن الحقيقيّ هو من ينيره الروح القدس ليعرف كيف وماذا سيقول. هو من يحيا كلمة البشارة فعليًّا قبل أن ينقلها للآخرين، وعندها سيحتفل بعيد الميلاد ليس احتفاليًّا دنيويًّا، بل دينيًّا. ليس عالميًّا، بل ببهجة سماويّة تفوق العالميّات”.
ميلاد مجيد هكذا نقول وهكذا نكتب، ولكنّ الإنسان، إنسان هذا العصر الذي يعيش الاضطراب والظلام ينتظر منّا أن نقول له كلمة أخرى أكثر شموليّة. فلنقرأ، إذًا، القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم ماذا دوَّن عن هذا العيد:
“تعالوا لنعيّد. تعالوا لنبتهج.
إنّ طريقة التعييد اليوم هي غريبة بقدر ما هو غريب الكلام عن ولادة المسيح.
فاليوم حُلّت الأربطة الدهريّة وخزي الشيطان.
اليوم هربت الشياطين وأُبطل الموت.
اليوم فُتح الفردوس، واللعنة بادت.
اليوم طُردت الخطيئة، والضلالة ابتعدت.
اليوم ظهرت الحقيقة، وعمّت البشارةُ المسكونةَ.
اليوم أزهر ملكوت السماوات في الأرض، والملائكة يتحادثون مع البشر،
وكلّ شيء أصبح واحدًا، لأنّ الإله نزل إلى الأرض، والإنسان صعد إلى السماوات.
نزل الإله إلى الأرض وهو لا يزال موجودًا، أيضًا، في السماء.
كلّه موجود في السماء وكلّه موجود على الأرض.
صار إنسانًا وهو إله. هو إله ولكنّه تلقّى جسدًا بشريًّا.
أُمسك في الحضن البتوليّ، وهو الذي يمسك بيديه المسكونة كلّها”.
والآن، هلمّ بنا نلقِ نظرة كيف يعيّد إنسان اليوم؟
– المنغمس في ملذّات هذا العالم يجد عيد الميلاد فرصة للسهر وللنزهة…
– التاجر الذي يرى كلّ شيء من منظار الاقتصاد والمال يفهم عيد الميلاد كحدث تجاريّ به يزيد أمواله ليودعها المصارف.
– العاطل عن العمل الذي لا يجد أمامه سوى الأبواب المغلقة، يتقوقع على ذاته لا يحسّ بآفاق جديدة مع الميلاد المجيد.
– الفقير الذي يجاهد لإيفاء ديونه لكي لا يفقد منزله يقبع حزينًا لا يشعر بفرح تنازل الطفل الإلهيّ اللاّمدرَك.
– المريض الذي تجعله علّته غير مبال بالأضواء والاحتفالات لا يهزّه الرجاء بمجيء طبيب الأنفس والأجساد إلى الأرض.
– السجين… رجل المخدّرات… الطالب الهائم بأنغام الأغنيات الصاخبة أو الغارق في ازدراد أطعمة المقاهي… كلّ هؤلاء يرون عيد الميلاد من منظار أهوائهم وضياعهم وشقائهم، ناسين أنّ من جاءنا إنّما جاء لهم ومن أجلهم.
لكلّ هؤلاء نوجّه إليهم الدعوة ليروا ابن الله المتجسّد الآتي ليرفعهم من شقائهم وعماهم، ويقودهم بيده نحو الخلاص الأبديّ. لكلّ هؤلاء نقول: انزعوا عنكم القناع الأرضي، واكتسبوا آخر روحيًّا، فتقودم خطاكم، عفويًّا، إلى المغارة لتسجدوا لمن هو الكلّ في الكلّ، والفقير الذي يغني الكلّ، والطبيب الذي يبرئ الكلّ.
* من مقالة باليونانيّة.