الصليب
الراهبة الأم مريم
دير مار يوحنا – دوما
X
يا صليب الرب المشوق إليه من العالم، أشرق بروق نعمتك البهيّة في أفئدة مكرّميكَ ومصافحيك بمحبّة إلهيّة. يا مَن بكَ اضمحلّتْ كآبة العبرات ونجونا من فخاخ الموت وانتقلنا إلى فرح لا يفنى. أظهر لنا بهاء جمالك مانحاً جوائز الإمساك لعبيدكَ الطالبين بإيمان معونتك الغنيّة والرحمة العظمى (التريوديون: عن صلاة المساء الكبرى – السبت).
الإله
“أنا هو الكائن”… (خر 3: 14) “أنا هو الطريق والحقّ والحياة” (يو 14: 6) “لا يقدر أحد أن يُقبِل إليّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني وأنا أُقيمه في اليوم الأخير” (يو 6: 44).
والرب قال: “أنا أُريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون” (1 تي 2: 4). ونقرأ في إنجيل يوحنا “ومع أنه كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها لم يؤمنوا به” (يو 12: 37). “…فنادى يسوع وقال. الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني. والذي يراني يرى الذي أرسلني. أنا قد جئت نوراً إلى العالم حتى كل مَن يؤمن بي لا يمكث في الظلمة” (يو 12: 44 – 46).
هكذا نقرأ أنه هو الكائن منذ الأزل وأنه هو الطريق والحقّ والحياة وأنه إذا أتى الإنسان إليه لا يمكث في الظلمة.
لكن الشعب الذي تجسّد الله منه ولخلاصه وخلاص العالم، لم يؤمن به، ولا بعد أن صنع لهم العجائب والآيات ولا بعد أن علّمهم، بل لطموه وبصقوا عليه، وحاكموه وجرّوه إلى الصلب، إلى الصليب وعلّقوه عليه… وبعد موته قام في اليوم الثالث كما أعلم هو تلاميذه. وعلى ما جاء في الكتب…
إذاً مجيء الرب إلى العالم وتجسّده مرتبطان بالصليب. لماذا الصليب؟ لأن البشرية سقطت من حضن إلهها ولم تؤمن أنه هو الإله المتجسّد لخلاصها والعالم، بعد أجيال الموت والخطيئة التي عاشت فيها بملء إرادتها…
الرب الإله خالق السماوات والأرض خلق آدم وحوّاء من نفخة روحه القدّوس وأطلقهما في فردوس نعيمه، معه… لكن الإنسان لم يرض بقسمة الله له، لم يرض بمشيئة الله، بل تحرّك ليعمل مشيئته هو، رغم وجوده في الفردوس…
الرب يسوع المسيح في تجسّده على الأرض، قال: أنا لم آت لأصنع مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني (يو 6: 38). وإذا كان الإنسان مخلوق الله أُطلق في الكون ليحيا بروح وبمشيئة الذي أوجده؛ فلماذا انزاح عن إلهه ليعمل مشيئته هو؟!…
هنا تندرج أمامنا فاعليّة الخلق الإلهي للإنسان – إذ خلق الله الإنسان حرّاً من أيّة تبعيّة، حتى للإله خالقه، وأراد الله الإنسان أن يختاره بملء إرادته… أراده أن يكون له بالكليّة وليس جزئياً والإنسان إذ تبطل إرادته يصير عبداً… لذلك أطلق الله الإنسان ليختاره، ليقف إزاءه، ليكون صنوه في روح الألوهة المنبثّة فيه…
أما الإنسان فسمع صوت الحيّة – الشيطان، وشكّ… لماذا؟ لماذا وهو الكائن في حضن الله معه في الفردوس سقط؟… لماذا سمعَ وشوشات الحيّة؟ لماذا عصى؟…
لأن الله قال له: أما من هذه الشجرة فلا تأكل.
وكان السقوط… من عدم الطاعة، من نقص السماع… وصار السقوط واقع البشريّة بأبيها آدم وحوّاء… ونحن حملنا لعنة السقوط وانشطار المشيئة، مشيئتنا الإنسانية… مع الله وضدّ الله في عدم طاعته.
لماذا سقط الإنسان؟!… لأنه حرّ…
لأن الله أعطاه حرّية الإختيار. لأنه أعطاه المشيئة الحرّة لكي يختار…
واختار الإنسان السقوط، اختار الموت، اختار الصليب… اختار التجارب والآلام، فصار حرّاً من حرّية الإله الذي أوجده، بل عبداً للشيطان ولوشوشاته، وللّعنة والأحاسيس النفسانية وللأهواء في جسده ولمشيئة فكره وتعظّمه… وأناه… في سقوط الإنسان صار أنا غير أنا الله؛ منشطرة عن الأنا الإلهية… التي هي نور وخلاص. والرب يسوع قال: “أنا نور العالم” (يو 8: 12). “فمَن يُقبل إليّ لا يمشي في الظلام”… (يو 8: 12).
إذاً هناك نور وهناك ظلمة… هناك حياة نورانية وهناك عيش مظلم مميت. إذ ضرب العدو “إرادة” الإنسان جعلها إرادة منقسمة على ذاتها، أي على اختيار الشرّ أكثر من التزامها الخير والنور والألوهة… وهذا هو سرّ الإثم إذ ضرب الشيطان مشيئة الإنسان… وسرّ الإثم هذا هو الذي مزّق طبيعة الإنسان وشقّ نفسه وشطر قلبه عن حبّ الله، فتعظّم بعقله وإرادة السقوط التي فيه، والتي هي إرادة الأنا والإنجاز. وإذ يفعل الإنسان مشيئته يدخله الشيطان في عبادة نفسه في الكبرياء… سرّ الإثم هو هذا الإنقسام والتجزّر والتفتّت ليصير الإنسان – وبعد أن التزم سقوطه وفرح به – عبداً للإثم وصارت عنده مع العيش المرّ، إرادة فعل الإثم ونكران الوصايا وعدم حبّه لتطبيقها… أو حتى لسماع كلمة المسيح أو اسمه أو الإلتزام به…
تجسّد الإله الإبن في هذا الكون ليخلّص العالم من سقطته ومن احتيال الشيطان والحيّة عليه ومن ربقة الموت. وفي تجسّد الإبن الوحيد للآب. ابن الله في نزوله إلى الكون رفع البشريّة معه إلى العلى… وإذ أتى الإله إلى الأرض كان عليه أن يعود ثانية إلى حضن الآب، إلى الحضن الذي منه خرج… وكان تالياً على الإبن الإله أن يموت ليعود ويَصعد ثانية إلى حيث كان أولاً…
ولكن هل يصعد وهو قد تجسّد باللحم والدم دون أن يموت هذا اللحم والدم، دون أن يموت هذا البالي ويدفن في الأرض الذي منها أُخذ؟!…
كل هذا عاشه المسيح ليُرينا دربَ خلاصنا وذلك بالطريق الخلاصي الوحيد، بالصليب والموت…
إذاً وإذ كانت لحياتنا بداءة على هذه الأرض، فسيكون لها نهاية أيضاً… والنهاية هي الموت…
والسؤال هو: أخلقنا الله لكي نموت؟!… وأيّ إله هذا الذي يختار البلى والموت والفساد؟… وإذا عاش الإنسان كذلك عمراً في الخطيئة والموت ولم ير فيها الحياة الأبدية، تجسّد الإله، ليُريَ الإنسان المخلوق حياة أخرى لا فناء فيها، ولا موت ولا نهاية لها، ذلك إذا آمن به هو، وبأبيه السماوي: “كل ما يعطيني الآب فإليّ يُقبل ومَن يُقبِل إليّ لا أُخرجه خارجاً. لأني قد نزلت من السّماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني. وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أُتلف منه شيئاً بل أُقيمه في اليوم الأخير. لأن هذه مشيئة الذي أرسلني أن كلّ مَن يرى الإبن ويؤمن به تكون له حياة أبديّة وأنا أُقيمه في اليوم الأخير” (يو 6: 37 – 40).
إذا كلمة السرّ، سرّ الخلاص هي في الورود إلى الآب بالإبن وبالروح القدس الساكن فينا… باختياره وحياته، كلمته ووصيّته، وحياة ابن الله مبسوطة أمامنا. وهي حياة حبّ وبذل وتعليم وصليب وموت وقيامة…
الصليب
والآن دعونا نسوق أنفسنا إلى الصليب… لماذا الصليب؟! لأنا سقطنا… هذا هو الجواب الواضح البسيط الذي لا يقبله عقل الإنسان وذلك لأن الإنسان رفض الحبّ ومنطق الحبّ الإلهي الإنساني تالياً رفض الخلاص… ولا خلاص إلاّ بالموت عن أنفسنا الساقطة، عن الخطيئة والأهواء التي فينا والتزام روح الإنجيل وروح الرب الساكن في كلمة وحياة ابن الله المتجسّد…
الصليب حافظ المسكونة، الصليب ثبات المؤمنين، الصليب جرح الشياطين. (أكسابوستلاري العيد).
الصليب سرّ الكون المخلوق… لأن الإنسان إذ عصى واشتهى غواية الحيّة وعاش في الفساد والموت، كان لا بدّ للإله أن يفتديه، ويخلّصه بالموت ويعيد آدم إلى صورته الأولى وذلك بتجسّد ابنه الوحيد وحمله على نفسه خطيئة آدم الساقط بالحبّ وبالموت على الصليب… كان على الخطيئة، خطيئة آدم أن تموت وكانت أداة الموت في تلك الأزمنة الصليب… وصُلب الرب معلَّقاً بين لصّين كمجرم ولم يأنف؛ بل قال لمبغضيه: “اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون” (لو 23: 34).
وإذ أسلم أمّه إلى يوحنا نكس الرأس وقال “قد تمّ قد أكمل، ونكس رأسه وأسلم الروح” (يو 19: 30).
“قد أُكمل… قد تمّ”… وهذا كان مدوّناً في مجمع الثالوث منذ البدء…
كان لا بدّ للمسيح المتجسّد لخلاص البشريّة من أن يموت على الصليب بأيدي الأثمة؛ لأن الإنسان أثيم؛ وكل إنسان خاطئ وأثيم. فكيف الخروج من هذه الدوّامة الشرّيرة؟!…
بالموت على الصليب مثل المسيح…
وكيف يموت الإنسان وهو حيّ، على الصليب ليخرج من دوّامة الموت ويحيا حياة أبديّة؟! بموته على الصليب!…
هناك يا أحبّة صليبان وهناك موتان…
صليب الإنسان الساقط وصليب الإله المتجسّد. صليب المسيح…
ما هو صليب الإنسان؟…
صليب الإنسان الأوّل هو هو؛ أناه… ولدتُ أُريد نفسي… أُريد أن أُحقق ذاتي، بالفكر والفعل، بالعمل، بالإنجازات، بكليّة كياني… ولا يعرف الإنسان أن هذا صليبه، إلاّ عندما يقترب من الرب يسوع ومن فكره، هناك ينشأ التضاد وتنشأ المفارقة…
الرب يريدني أن أفتقر إليه وحده وأنا أريد أن أغني نفسي وبالعالم.
الرب يريدني أن أجوع إلى ملكوت السماوات، وأنا جائع إلى شهوة البطن والإسراف والأكل والشرب وأطايب ولذائذ الجسد وشهوته وحبّ الظهور.
الرب يريدني أن أعفّ إليه وحده، وأنا أُريد أن ألبّي شهوة جسدي وأحاسيسي وعيني وقلبي وفكري وأصنع مشيئتي…
الرب يريدني أن أخلص بالحبّ الإلهي وأنا ما فتئت أستلقي في أحضان الشهوة وحبّ الأجساد والرغائب والعالم وحبّي لنفسي.
الرب يريدني أن أُعلّق فكري على ذكر اسمه القدّوس لأعلو به إلى السماوات وأنا أُريد أن أنزل بفكري إلى بواطن إنجازاتي وأهوائي وعلومي واختراعاتي…
الرب يريدني أن أُحبّه من كل القلب والفكر والنفس وأنا أُريد أن أُحبّ ذاتي قبله وأعبد نفسي إلهاً…
الرب أوصاني بأن أُحبّ قريبي كنفسي وأنا لا وقت ولا مال عندي لأن أذكر الجائع والمريض والمسكين والعطشان والقريب وفي وصاياه هذه لي، ما يريده الرب مني، أن أنجو من فخاخ العدو ومن موتي الذي زيّن لي حبّ العالم وأغرقني في ضلالة هذا الحبّ الذي يجرّني ببطئ إلى التلف والموت والتشتّت والتفتّت والضياع والشك.
والرب قال: “لا تحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم” (1 يو 2: 15).
وقال أيضاً “أنتم لستم من هذا العالم” (يو 15: 19).
أنختار إذاً العالم أم الله؟… ونحن في غالبيّتنا نقول إننا اخترنا الرب؛ لكننا بالحقيقة ما زلنا لا نقبل صليبه لخلاصنا… بل ما زلنا نهرب من الصليب. من صليب الرب المحيي لنختار صليبنا نحن ونقول: هذا مقدّر لي وللإنسان أن يحيا في الشقاء، هذا هو العمر… ولا يمكننا أن نغيّر أي شيء بل إننا؛ أرقاء مضبوطين وقدرنا العذاب والتألّم والموت…
ويأتينا الشرّير بفكر آخر: أترون هؤلاء البعيدين عن الله أترون كم هم أغنياء وموفّقون وناجحون، يرتعون في الراحة والبحبوحة ونحن في الألم والهمّ والشقاء…
ولكن؟!… أليس من حياة أبديّة؟! أليس من استمراريّة؟ أهل ينتهي العمر ههنا؟ أنأتي إلى هذه الحياة لنعيش بعض السنين في الآلام والأوجاع والضيقات وليس من منقذ؟!…
ما أعجب هذا الإله الذي خلق الدنيا وخلقنا هكذا؟
دعونا إذاً نحيا ونسرف ولا نبالي إن كان الموت هو الخاتمة والنهاية.
هذا هو فكر العالم وهذا هو صليب العالم…
“تعالوا إليّ يا أيها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم… احملوا نيري عليكم فإن نيري هيّن وحملي خفيف”… (مت 11: 28 – 30).
التجارب
ها إننا تبعناك يا رب فماذا لنا؟!…
“اما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس وكان يُقتاد بالروح في البريّة. أربعين يوماً يُجرّب من إبليس. […] ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين” (لو 4: 1، 2 و 13).
وجرّب إبليس الرب أيضاً بالجوع إلى الخبز طالباً منه أن يحوّل الحجر إلى خبز ليأكل إذ كان صائماً صومه الأربعيني المقدّس… وأجاب الرب “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة من الله” (لو 4:4). إذاً المقارنة هي بين الخبز الأرضي وبين الإغتذاء من كلام الله… وصليبنا نحن البشر هو؛ إما أن نركض باحثين عن الخبز الأرضي أو أن نتّكل على الله وندعه هو يكون خبزنا وغذاءنا وأن نفتح له الأبواب حتى يطعمنا هو ويغذّينا هو إذا ما أتينا إليه وهو قال: “لا تهتمّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون … تأمّلوا زنابق الحقل كيف تنمو… فإنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها… أنظروا إلى طيور السماء فإنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها؟…” (مت 6: 25 – 31) وهذا هو أوّل صليب للإنسان… حبّ البطن ولذّة المآكل.
والتجربة الثانية كانت تجربة السجود لإبليس حتى يُملّك الإله المسكونة… وبالإمكان أن يأتينا الجواب على عجالةٍ… الله خلق الأكوان وهي كلّها له، أما نحن فعلينا على حبّ التملّك وحبّ الإستئثار… أما إذا أتينا إلى المسيح فيصير هو دنيانا وملكنا فيقدّم لنا جوائز غناه الأرضي والسماوي تالياً… وهو قال: “اطلبوا أوّلاً ملكوت السماوت وبرّه وهذا كلّه يزاد لكم”… (مت 6: 33). إذاً، إذا كان هذا وعده، فإننا إن أتيناه سيملّكنا ما نحن بحاجة إليه… وهذا تالياً يصير صليبنا الثاني… فلا نعود نركض لاهثين وراء الملك الأرضي الفاني، بل نسعى وراء بناء ملك لنا لا يفنى ولا يزول ونتمسّك بافتقارنا إليه، ولا نرضى السجود ولا للحظة أمام شيطان الغنى والملك الأرضي والتملّك البشري، فنحيا صارخين من كل القلب والفكر والنفس إليك وحدك أتوق ولكَ وحدك أسير يا رب الكون يا سيّدي وإلهي…
والتجربة الثالثة أو الصليب الثالث هو التهوّر والسرعة والعناد والقبول على التجربة بل طلبها ظانّين أننا لن نصاب بأذى وأننا إذا جرّْبنا بعض المفاتن الدنيويّة وبعض الغوايات الأرضيّة، بل بعض المخاطر فإن الربّ سينقذنا، أو أنا بقدرتي الداخلية سأرتدّ ولن أغرق في المساوئ بل سأضع حدّاً لنفسي وأنسحب…
هذه الغواية الفكرية والإراديّة؛ تقول للإنسان: “جرّب لا بأس عليك”… وهي ضرب من ضروب احتيال العدّو الشيطان على الإنسان ليدمّره من الداخل… وأودّ هنا التركيز على هذه النقطة بالنسبة لما يصيب شبابنا اليوم والذي كان يصيب كل الناس منذ الزمان الأول وحتى الآن.
التجربة يا أحبّة هي قبول تجربة الخبز والتملّك والغنى والشهوة بالجسد والسلطة… والسؤال هو الآن، أنحيا هذا العمر بدون شهوة؟!… “آه مَن يخلّصني من جسد الموت هذا” (رو 7: 24) هكذا صرخ الرسول بولس وقال أيضاً: “إذ لست أفعل ما أُريده بل ما أُبغضه فإيّاه أفعل” (رو 7: 15).
إذاً هناك في هذا الكيان إرادة انقسمت وبدل أن تكون إرادة لصنع الخير والصلاح والبرّ، صارت إرادة ماديّة، دنيويّة نفسانيّة تتلذّذ بالأهواء والأحاسيس وترتاح إلى المآكل وتُشبع نفسها بالسلطة والنجاح والمال والغنى والفسق وتتملّك العلوم والمعرفة الدنيويّة وتمتلك المنازل والممالك الأرضيّة وتركع لأناها ولكبريائها…
فكيف الخلاص إذاً؟!…
الخلاص بصليب الرب
بصليب الرب يسوع المسيح…
“أنتم الذين ثبتم معي في تجاربي. وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً. لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي” (لو 22: 28 – 30).
إذاً الموعد محدّد وقد أُعطيَ لنا والوعد أكيد والمائدة معدّة وممدودة لتناول أطايبها في كل لحظة وآن… فماذا نختار إذاً، صليبنا نحن الذي أوجدناه لأنفسنا لأننا أحببنا هذا العالم أكثر من الآتيات والفانيات بدل الباقيات، والسفليّات بدل العلويّات؟!…
مَن عاش هذا العمر ولم يمتْ؟ مَن أسّس ممالك أرضيّة ولم تفن؟ مَن رتّب قوانين وأنظمة وأحكام وموازين ولم تتبدّل؟ مَن بنى ولم يتهدّم، مَن أحبّ ولم يفشل ولم يتأرجح حبّه ويمتلئ شكوكاً واحتيالات ومرجوات كاذبة؟… مَن عاش بدون أسى؟ مَن لم يصادف مشاكل في أيّامه كل لحظة؟!… فإذا كان عنوان الحياة الأرضيّة – الموت الذي يفني بدءاً الروح ثم يقضي على الجسد – فدعونا نأتي بكلّيتنا إذاً إلى العلويّات، إلى الروحيّات، إلى السماويّات…
كيف الخلاص بصليب المسيح؟!…
المسيح عُلِّق على الصليب ليعلِّق معه، على صليبه خطيئتنا… إذاً، إذا نحن أتيناه مؤمنين به، فخطيئتنا وموتنا سيعلّقان على صليب الرب الذي أسّس في الوسط… وهكذا نعلّق نحن على صليب يمينه نصرخ له اذكرنا يا رب متى أتيتَ في ملكوتك فيجيبنا: أنت تكون معي هذه الليلة في الفردوس؛ إمّا نكون كلصّ اليسار فنجدّف أيضاً وأيضاً على الرب متّهمينه بموتنا…
علينا يا أحبّة أن نفهم ما جرى للرب على الصليب؛ ومن ثمّ إتّباعه بكلّيتنا!!… “فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذٍ وجهاً لوجه” (1 لو 13: 12). الآن نحن لا نفهم ولا نفقه كيف الإله خالق السماوات والأرض ارتضى أن يعلّق على الصليب… إذاً هو إله ضعيف… ويجيبنا تساؤلنا “إن قوّتي في الضعف تُكمل” (2 كور 12: 9). “وتكلّم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال: أيها الآب قد أتتِ الساعة. مجّد ابنك ليمجّدك ابنك أيضاً. إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل مَن أعطيته”… فالحياة الأبديّة معطاة إذاً على الصليب “وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو 17: 1 – 3). معلَّقاً بأيدي أثمة ومطعون ومضروب ولكنه قائم وغافر للذين صلبوه خطيئتهم…
هذا هو إلهنا الذي أتى ليخلّصنا ويعطينا الحياة الأبديّة… إنه ليس إله ضعيف لكنه إله مسامح وغفور وملتحف بالنور الإلهي، لأنه هو النور وحامل على منكبيه البشريّة كخروف ضلّ وسقط فذهب الإله نازلاً وراءه من حضن أبيه، ليعيده إلى الأحضان الأبوية ويردّ له مجده الأوّل، كرامته وجماله ونوره والحبّ الذي لا يفتر ولا غشّ فيه ويعيد له رقّته وسلامه.
هكذا يا إلهي نعرفك على الصليب أنك “أنت الإله الحقيقي وحدك”… هذا هو صليب الألوهة صليب المسيح… فنحن إذ نتّبع خطى السيّد، فإننا نصير آلهة بالنعمة وبالمثال المتّبع، إذ صار هو إنساناً كاملاً في ما عدا الخطيئة ليصيّرنا نحن آلهة على شبهه ومثاله… هذا التلاقي والاتحاد الإنساني الإلهي هو مبتغى التجسّد… ونحن كلّنا لن نعرف السيّد يسوع المسيح، إن لم نحيا مثله، كلمته ووصاياه… فالمعرفة مشابَهَةٌ كما الحبّ إتحاد ووحدة… ونحن إذا التزمنا الرب هكذا في تطبيق وصاياه ومجابهة شيطان الخطيئة الساكن فينا، فإننا نصير له الخروف الضال العائد إليه على كتفيه… هكذا نعرفه، نعرفه معلّماً وطبيباً شافياً وابناً وحيداً للآب ونعرفه مصلوباً على خطيئة الإنسانيّة بعظيم حبّه للإنسان، لذا: “فاعرفه وقوّة قيامته وشركة آلامه متشبّهاً بموته لعلّي أبلغ إلى قيامة الأموات” (في 3: 10 – 11). ويجبب الرسول بولس بسرعة حتى لا يظنّ أحد منا أننا قد بلغنا أو نبلغ إلاّ بالنعمة النازلة من فوق، “ليس أني قد نلت أو صرتُ كاملاً ولكني أسعى لعلّي أُدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع” (في 3: 12).
نحن والسيّد
نحن يا أحبّة نُدرك بالإدراك أن لنا ربّـاً وإلهاً وهو بعظمة حبّه قد ارتضى أن يتنازل لأجل خلاصنا. فإذا تنازلَ هو وأعطى حتى يقيمنا من سقطتنا، فماذا نكون نحن من بعد؟! نسمعه، نتبعه، نقول له “لتكن مشيئتك لا مشيئتي” وهي كلماته على الصليب وفي الجلجلة… حيث بلغ الرب هناك تمام كمال مجده.
آلام السيّد يا أحبّة، لم تكن بسبب خطاياه هو ولكن بسبب جنوحنا نحن وضلالنا… وهو أتانا وأفرغ ذاته آخذاً صورة عبد، كي يعلّمنا إفراغ الذات الكامل كما تمّ بدءاً في السماء… هو الإله أفرغ ذاته آخذاً صورة عبد، فعلينا نحن إن أحببناه أن نفرغ ذواتنا من عبوديّتنا وخطيئتنا وموتنا في أهوائنا، لنأخذ علينا ألوهته…
فكيف لا نسمع بعد؟ كيف لا نحسّ بعد؟ كيف لا نهرب مثل موسى الذي ترك رداءه، حتى لا يحيا في الخطيئة مع ابنة فرعون وفضّل فقر شعبه على موت الغنى؟
إذاً يا أحبّة علينا بالحقيقة أن نختار؟!… وكيف نختار إن كانت إرادتنا منقسمة، بل إن كنا قد صرنا بلا إرادة حقيقيّة بسبب ضعفنا وخطيئتنا؟!… نحن بالخطيئة صرنا مخلّعين عن فعل أي عمل صالح وعن أي برّ… وإذا فعلنا ولو خيراً واحداً فإننا نبوّق ونطبّل ونزمّر، صارخين في الحي تعالوا انظروا ما فعلنا من خير وبرّ وصلاح وصرنا نحن صلاحاً… والرب يسوع باتّضاعه قال: “ليس صالح إلاّ الله وحده” (مت 19: 17).
لكن يبقى علينا أن نأتي الرب صارخين كالكنعانية “أغثني يا رب”. نحن سقطنا وسقوطنا وسقوط البشريّة في آدم فينا كان فظيعاً… فكيف النهوض؟!…
“القلب المتخشّع المتواضع هذا لا يرذله الله” (مز 50: 17) فالقلب المتخشّع المتواضع، قلب لا يتكبّر ولا يظنّ نفسه أفهم من غيره، أو أرفع شأناً. فوالدة الإله حين أتى الملاك ليبشّرها بولادة “الحياة” منها قالت: “ها أنذا أمة للرب فليكن لي بحسب قولك”… أمة للرب، يعني عبدة، وهي قبلت بشرى الملاك لها؛ وإذ اتضعت قالت: إني أمة. صارت أم الإله والبشريّة جمعاء وصارت تالياً السلّم الذي ربط الأرض بالسماء؛ صارت صليب البشريّة الساقطة المنغرز في الأرض وهي أعلته، أعلته حتى واصلت به السماء… صارت هي البشريّة الجديدة التي عُـلّق الرب يسوع عليها، لخلاصها بحبّه لها…
بالقلب المتخشّع المتواضع، يبلغ الإنسان إلى الكمال البشري الذي يعطيه إياه الرب يسوع… والكمال قوامه تواضع الحبّ والرب إذ أحبّ خاصته إلى المنتهى تنازل وأفرغ ذاته بالكليّة في إنسانيّتنا فأعطانا نحن الخطأة شركة في ألوهته، إذ تنازل وصار إنساناً مثلنا آخذاً صورة عبوديّتنا، لنصير نحن آلهة على شبهه ومثاله…
هذه المشابهة يا أحبّة تتطلّب أمانة… أمانة في القليل الذي بإمكان أي إنسان أن يقدّمه لله خالقه… وهو قال: مَن كان أميناً في القليل أقيمه على الكثير” (مت 25: 21).
ومثالنا في الأمانة الأولى والقصوى، هي والدة الإله؛ التي أحبّت وبذلت نفسها رغم محدوديّة البشرة والطبيعة الإنسانيّة، لكنها قبلت ضعفها وعدم فهمها الكامل لمسيرة ابنها، لكنها تبعته حتى الصليب والقبر والقيامة… لم تسأله، لم تشكّ، أحسّت في قلبها ما عليها أن تفعل… هكذا قالت له: الجرار فرغت من الخمر؛ لأنها كانت تعرف أنه باقتداره يستطيع أن يصنع شيئاً؛ أسلمته حاجة الآخرين بالكليّة وسألته الكلمة بأن يعطيها. فأعطى العرس خمراً ليستقوا منه وأعطانا نحن البشريّة، في عرس صليبه، دم جنبه خمراً نستقيه وجسده لنأكله ونحيا بهما إلى الأبد. “أنا هو خبز الحياة… […] أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو 6: 48، 51).
وإذ أعطى الرب ذاته، إذ أخلى ذاته آخذاً صورة عبد معلَّقاً على صليب الأثمة، بلغ تمام الكمال في إفراغ ذاته من الألوهة وعدم التعلّق… وإذ لم يتعلّق هو بألوهته، بل تخلّى عنها لأجلنا، عن ماذا نتخلّى نحن إذاً لنبلغ ألوهته؟ عن إنسانيتنا الساقطة؟ عن كبرياء أنانا، عن موت الحبّ فينا، عن كذبنا؟ عن تعظمنا؟ عن غش قلبنا؟ عن حبّنا للخطيئة؟ عن ركضنا وراء المال والسلطة والكبرياء؟ عن ماذا نتخلّى؟ وما عندنا؟ معطوبيّتنا جسداً ونفساً وروحاً؟!… عن خطيئتنا التي ترمينا كل يوم في الشك وفي الإحتيال والقلق والمراوغة وعدم السلام؟…
آه كم علينا إذا أحببنا الله وآمنا به أن نركض ساعين لنتخلّى، بل لنرمي عنا الثوب الذي خاطه شيطان الخطيئة لنا، إنساننا العتيق لنلبس الجديد، لنلبَس جدّة الحياة في المسيح، لنخلع منّا وعنّا الموت الذي تبنيناه طائعين وألبسناه لكياننا… ما أجمل تلك اللحظات التي نبدأ فيها بجهاد شرس ضدّ طبيعتنا الساقطة، ضدّ إنساننا العتيق… وهو أن نتخلّى عن أنفسنا وعن أي تعلّق مادّي ومعنوي بإنساننا المائت، الذي لا خلاص له إلاّ بالصليب…
والصليب لنا هو تعرّي من كل لباس خاطته الخطيئة لنا، وموقفنا، من سعينا وركضنا وراء المال والغنى والسلطة، وفي تقوقعنا في أنانياتنا، وفي أجسادنا ولذائذ شهوة أجسادنا، في بخلنا العطاء لإخوتنا، وللفقراء المعوزين والمساكين بالروح؛ لأن هؤلاء هم مسكن السيّد وبيته ومنارات النور التي عليها يستقر النور الإلهي، الذي لنا أن نتّبعه في سواد هذا العمر…
يا أحبّة، علينا أن ندرك جيداً أن المسيح مكروه في هذا العالم، لأنه فضح سقوط البشريّة وخطيئة المتكبّرين وأنزل عروش المتسلّطين… والذين يتّبعونه سيكونون أيضاً مثله مكروهين؛ “طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كل كلمة سوء لأجلي كاذبين… افرحوا وتهلّلوا فإن أجركم عظيم في السماوات” (مت 5: 11 – 12).
إذاً لنا أجرنا نحن في الملكوت… “وملكوت السماوات في داخلكم”؛ إذاً الرب يتحدّث عن القلب، عن ملكوت الحبّ وعن الحقّ الذي يحمله أولئك الذي يحبّون الرب…
النسك
والحبّ هو النسك عن الأهواء للدخول في الأبديّة… أبديّة الحب والأبديّة الإلهية… وذلك بالتماسنا وجه الرب ومشيئته وسيرته وكلمته… وهي هي يا أحبّة القداسة التي لها أن تصير مطلب الإنسان… “كونوا قدّيسين كما أن أباكم السماوي قدّوس” (1 بط 1: 16).
لكن علينا أن ندرك أن القداسة هي الصليب؛ لأن القدّوس علّق على الصليب وهو بلا خطيئة…
فلنتّبعه إذاً حاملين عاره إلى الصليب، إلى القداسة التي تُحرِقْ فنصبح شهداء له حاضرين لأن نسمع نداءه ومجيبين “تكلّم يا رب إنّ عبدك يسمع” “وهاءنذا أمة لك ليكن لي بحسب قولك”… هكذا نجد أيضاً أن القدّيسين مكروهون وأحبّة الله لا مكان لهم في هذا العالم. والبشر يضطهدونهم ويشنّعون عليهم وكما صُلب المسيح كذلك سيَصلبون كل إنسان بحبّ الرب وباتباع كلمته؛ لكننا نقرأ متأمّلين خلاصنا بما قاله الرسول المصطفى بولس: “كونوا متمثّلين بي معاً أيها الإخوة ولاحظوا الذين يسيرون هكذا كما نحن عندكم قدوة. لأن كثيرين يسيرون ممّن كنت أذكرهم لكم مراراً والآن أذكرهم أيضاً باكياً وهم أعداء صليب المسيح الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم الذين يفتكرون في الأرضيات. فإن سيرتنا نحن هي في السماوات التي منها أيضاً جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته هكذا نحيا الرب وكلمته وصليبه الذي هو هو هاتفين:
المجد لك أيها المسيح الإله ولصليبك. آمين…
Z Z Z Z Z