قابلية تطبيق اللاهوت الأرثوذكسي
المتقدّم في الكهنة يوحنا رومانيدس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
كل البشر، بغض النظر عن الجنسية والعِرق واللون، لديهم مَلَكة نوسية وبالتالي إمكانية بلوغ الاستنارة عن طريق التطهر ومن ثمّ إذا ارتضى الله يمكنهم أن يختبروا التمجيد بدرجاته المختلفة. في كل الأحوال، درجات المعاينة المختلفة هي الخبرات الأكثر سمواً في الحياة الروحية واللاهوت الأرثوذكسيين. إن هذه الحياة الروحية واللاهوت ليسا يونانيين ولا روسيين ولا بلغاريين ولا صربيين، إلخ، بل هما نبويين رسوليين وببساطة مسيحيين.
على هذا الضوء يمكن السؤال: “ما هي الروحانية الروسية” ولماذا تُقَدَّم كشيء أعلى أو أقلّه مختلف عن الروحانيات الأرثوذكسية الأخرى؟
يبدو أنه متى توصّل اللاهوتيون الأرثوذكسيون إلى معرفة أن أسمى أشكال اللاهوت هي المعاينة، التي هي التقليد المستمر للعنصرة في التاريخ، عندها يصير بإمكانهم اتّخاذ مواقف لتفحّص هذا التقليد في إطاره التاريخي بهدف تقييم تطبيقات هذا اللاهوت بشكل صحيح على علاقة الكنيسة بالمجتمع والعالم بشكل أوسع.
إن العنصر الأكثر قوة في هذا الفهم للاهوت هو أن مَن يحمله متحرر من العبودية لبيئته، ليس عن طريق الهروب منها بل بتحرير المَلَكة النوسية من تأثير وهيمنة العقل والأهواء والبيئة حتى أن الذين بلغوا الاستنارة والمعاينة يصيرون قادرين على تحويل العقل والأهواء والبيئة.
واضح تماماً أن المسيح صلّى لوحدة الرسل وأتباعهم على أساس أن نجد الآب مستقر فيه بالروح القدس “لكي يؤمن العالم” أن الآب أرسله. إجمالاً، العالم لا يؤمن بسبب المسيحيين كونهم في أغلب الأوقات ليسوا أفضل من أعضاء الأديان الأخرى لا بل أسوأ. بسبب المسيحيين، الكثيرون لا يستطيعون أن يجدوا المعنى الجدّي للمسيحية، مع أنهم يقبلون المسيح كقائد ديني عظيم ومعلّم أخلاقي.
إن مَن يجعل العالم يؤمن بأن الآب أرسل الابن هم المسيحيون في حالتي الاستنارة والتمجيد. يستطيع الإنسان أن يتفحّص كيف أن الممجَّدين يؤثّرون في محيطهم بدراسته سير القديسين مع التركيز على الأيقونات والرفات. واستناداً إلى هذا التقليد، تقليد التمجيد، يتأكد الإنسان أن الكثير من الأصنام والخرافات قد غَزَت الفهم الأرثوذكسي المعاصر للتاريخ من خلال التقليد الروسي الرسمي الذي، بعد بطرس الأكبر، خان حضارة روما الجديدة الأرثوذكسية والتحق بالحضارة الإقطاعية التي في أوروبا الفرنجية. إن استمرارية تقليد التمجيد تعني أنه طالما هو مستمر، فالتقليد الآبائي مستمر، ما يعني ببساطة أن الجوهر الأساسي للتقليد الأرثوذكسي مستمر. عند سقوط روما الجديدة، كان هذا التقليد قوياً جداً بين روميي بطريركيات روما الجديدة، الإسكندرية، أنطاكيا وأورشليم.
مباشرة بعد قيام بطريركية موسكو، أدانت كنيسة موسكو الهدوئيةَ بشكل رسمي، واستخفّت بشيوخ ما وراء الفولغا الذين عُرفوا بعادمي القنية، ودعمت شكلاً من الرهبنة غريباً عن تقليد التمجيد وأكثر شبهاً بالمؤسسات الرهبانية الإقطاعية في أوروبا الإقطاعية. مع هذا، هناك ميل إلى تصوير الأرثوذكس الروم تحت الاحتلالين العربي ومن ثمّ التركي وكأنهم أرثوذكسيون من الدرجة الثانية فيما الأرثوذكسية الروسية هي المثال الأفضل لكل ما هو أرثوذكسي.
يبدو في الواقع أن الكنائس ذات تقليد التمجيد القوي ليست أفضل أو أسوأ من الكنائس الأخرى ذات التقليد نفسه، لأن معاينة الله هي نفسها حيثما وجدت، ما يعني أن التقوى والحياة الروحية واللاهوت هي نفسها أيضاً. في مطلق الأحوال، واضح أنه عندما بدأ النزاع حول عقيدة الانبثاق بين الفرنجة والروميين، كان على الفرنجة تلقائياً أن يقضوا على التقليد الآبائي لأن الآباء الروميين بعد القديس يوحنا الدمشقي كتبوا ضد عقيدة انبثاق الروح القدس وأدانوها بقوة.
من الضروري دراسة متى ولماذا تبع الروس الإفرنج في القضاء على التقليد الآبائي لتكوين صورة واضحة. إن هذا التقليد الروسي هو الذي حُمِل إلى مملكة اليونان الحديثة مع تأسيس المدرسة اللاهوتية في جامعة أثينا. إنه لمهم جداً أن مجمع 1368 في القسطنطينية أعلن أن القديس غريغوريوس بالاماس هو من آباء الكنيسة العظماء وحرم كل مَن لا يتوافق معه. ما قام به هذا المجمع فعلياً هو إدانة أولئك الذين كانوا يوافقون الإفرنج بأن لاهوتهم السكولاستيكي هو أفضل من اللاهوت الآبائي الذي، بنظر الإفرنج، انتهى في القرن الثامن.
واضح جداً أيضاً أن لا مكان في التقليد الأرثوذكسي للتمييز اللاتيني بين ما يسمونه الحياة العملية والحياة التأملية. فهذان الجانبان من حياة البتولية في تقليد الرهبنة والأخويات اللاتيني غريبان عن الأرثوذكسية. السبب لذلك بديهي: عندما تبلغ المَلَكة النوسية ذكر الله وحده وتحتويه، فالعقل والذاكرة والجسد والأهواء تستمر بالعمل ولكن تحت سيطرة النوس المتحرر كلياً بدلاً من سيطرة البيئة. ولأن المحبة في هذه المرحلة ليست موجهة للذات بل غير أنانية فمَن بلغ هذه المرحلة لا يحب الله وحده وحسب بل أيضاً البشر والخليقة، حتّى أنه مستعد للتخلي عن خلاصه الشخصي لخلاص الآخرين.
هذا يعني أن التمجيد الحقيقي يتخطّى المَلَكة النوسية ويتخم النفس والجسد ويقدّس المحيط، اي الخليقة الاجتماعية والمادية. المحارب الأرثوذكسي لا يطلب الفرار من العالم المادي، بل تقديس العالم المادي بتحريره من الشيطان وأتباعه. غير أنه يتعلّم أولاً كيف يربح المعارك من أولئك الذين صاروا خبراء في هذه الحرب ومن ثمّ هو يعلّم الآخرين.
هذا فحوى الدراسة النقدية لتطبيق اللاهوت الأرثوذكسي.