شذرات من أقوال المحاضرين في المؤتمر الرهبانيّ
المنعقد في متيورا في العام /2000/
نقلته عن اليونانية إعداد راهبات دير مار يعقوب
** هدف الحياة الرهبانيّة هو العشق الإلهيّ والاتّحاد بالمسيح عبر تقديس ذاتيّ مؤسَّس على النسك، وتحقيق الفضائل الرهبانيّة الثلاث: البتوليّة والفقر والطاعة. إنّ عيش هذه الفضائل الأساسيّة يشفي الأهواء البشريّة الثلاث: الزنى وحبّ المال وحبّ المجد. وهكذا بشفاء عين الراهب الداخليّة، يتقبّل شعاع الروح القدس حيث يصل في النهاية إلى نعمة الاتّحاد بالله، ويتذوّق الفردوس بدءًا من هذه الحياة الحاضرة. بواسطة التقديس الذاتيّ اليوميّ، وبواسطة الصلاة المستمرّة والمحبّة الكاملة يغدو الرهبان المحسنين الكبار لكلّ العالم.
** تعود الرهبنة عضويًّا إلى جسد المسيح لأنّها (لحم من لحمها وعظم من عظامها: تك 2: 21). تتغذّى بنعمة أسرار الكنيسةوتتقوّى وتثمر وتتقدّس. ولكنّها، في الوقت نفسه، تُحيي الكنيسة وتعضدها وتمجّدها وتنيرها.
** الرهبان كرزة صامتون في أغلب الأحيان، ولكن، مع صمتهم، يساعدون المجتمع البشريّ على الارتقاء فوق المادّة بواسطة تجلّيهم السرّيّ أي ارتقائهم الشخصيّ فوق الهيولى.
** بقدر ما يعيش الراهب عمق النذور الثلاثة (الطاعة والفقر والعفّة)، التي تؤدّي إلى التألّه كما يقول الآباء، وبقدر ما تُضحي هذه النذور ذبيحة حبّ يقدّمها الراهب كلّ لحظة على مذبح الصحراء، بقدر ما تنسكب رحمة الله على العالم، وهكذا تستمرّ الحياة.
** قلب الراهب مذبح يقدّم عليه يوميًّا مشيئته الذاتيّة ساحقًا، وبقوّة، الأنا، ومغرّقًا الأهواء، وقاتلاً العادات الشخصيّة السيّئة.
** الرهبان هم ثمار الإنجيل الحيّة. هم المتشفّعون المقتدرون للمسكونة بكاملها. وسوف يبقى الكون موجودًا طالما وُجد فيد قدّيسون. الرهبان هم المثل الأعلى للمؤمنين إبّان التجارب. هم الأطبّاء الحقيقيّون أثناء الضعف، والملجأ الأمين عند اشتداد نوء الحياة.
** يوضّح القدّيس نيقوديموس الآثوسيّ لماذا أورد السنكسار قصص آلاف وملايين القدّيسين وأخبارهم قائلاً: “تُرى لماذا، أيّها الإنسان المسيحيّ، أورد السنكسار أخبار هذه السحابة المختَبَرة من الصدّيقين؟ لكي ينعشوا بتضرّعاتهم قلبك المتأجّج بسعير التجارب، ويندّوا نفسك بنعمهم عندما تلهبها الأهواء، ولكي يحموك من كلّ عدوّ محارب منظور كان أم غير منظور. وأخيرًا، لتتشجّع في الحرب اللاّمنظورة ضدّ الأهواء والشياطين عندما تدرك، وتتيقّن، بأنّك محاط بهذا العدد الهائل من القدّيسين مساعديك”.
** يؤكّد الراهب بحياته اليوميّة أنّ القداسة ليست منحصرة بعصر ما أو بجيل محدَّد، بل هي اليوم كما كانت أمس، وما قداسة القدّيس نكتاريوس وسلوان الآثوسيّ وأمثالهم إلاّ تأكيدًا لهذه الحقيقة.
** من الملاحَظ أنّه على مرّ العصور لم تنجح أيّة من المجتمعات البشريّة بتحقيق المساواة والعدالة بين أفرادها. في حين نرى، وعلى مرّ العصور أيضًا، أنّ الشركات الرهبانيّة حقّقت هذه المساواة وهذه العدالة بنجاح كبير.
** ومن الملاحَظ، أيضًا، أنّ الله يزيد الدعوات الرهبانيّة في أيّامنا هذه، لأنّ الأرض أضحت بحاجة إلى قدّيسين لتستمرّ مسيرتها. نعم، إنّ استمراريّة الرهبنة علامة عطف من الله ومحبّة تجاه بني البشر. ووجود الأديار علامة بركة إلهيّة على الأرض. لذلك نرى الناس ترتكز على صلوات الرهبان مسمِّرة عيونها وشاخصة إلى سبحتهم تستمدّ منها العون في حياتهم.
** خروج الراهب من العالم لا يعني سوى تحقيق لحرّيّته التي تتجلّى بتطبيق الوصايا الإلهيّة. ليعرف الإنسان الله تمام المعرفة ينبغي له أن ينسى كلّ أمور العالم، وأن يبتعد عن اضطراباته، وأن ينقّي قلبه من الأهواء، ولذلك فالجلوس في السكينة والهدوء هو بداية الطريق إلى معرفة الله.
** الرهبنة الأرثوذكسيّة هي رهبنة هدوئيّة. فهدوء الذهن ينبع من التوبة ومن تطبيق الوصايا. الهدوء لا يعني الجمود. إنّه هدوء داخليّ، لأنّ الراهب يسكن ويصمت ليتحدّث مع الله، وليتقبّل الله نفسه في داخله، ثمّ لينفتح بمحبّة عميقة نحو أخيه الإنسان.
** ليس الراهب هو من يدعو إلى التوبة، بل هو من يتوب. هو من يسعى لتكون التوبة هدف حياته كلّها. أن يحيا قلبه في انسحاق دائم، لأنّه، في الوقت الذي يعيش فيه التوبة يعيش، أيضًا، تغيّرًا داخليًّا.
** ما هي الأسس التي يبني الراهب عليها حياته؟ إنّها الطاعة بدون تمييز، الصلاة الحارّة، الخدم الليتورجيّة غير المنقطعة، النسك مع انسحاق النفس المتواصل، أن يحسب نفسه تحت الخليقة كلّها. عندما أراد رهبان أحد الأديار أن يدعوا ناسكًا لزيارة ديرهم بغية المنفعة الروحيّة ونوال بركته، أجابهم: ” يا بََنيّ، ما أنا إلاّ كلب مسعور، ماذا أقدّم لكم؟ أتدعونني لكي ألوّث الهواء بخروجي إليكم؟!”.
** لا يوجد في فم الراهب إلاّ كلمتين: سامحوني يا إخوتي.
** الراهب بصلاته يسند المسكونة كلّها، هذه الصلاة التي خلّصت أناسًا كثيرين كانوا مشرفين على الخطر دون علمهم.
** لا يقاس تقدّم الراهب بمقدار صلواته وتقشّفاته، بل بمقدار ما أوصلته هذه التقشّفات ليغدو محلاًّ رحبًا يستريح فيه الروح القدس، فيصبح، هو بدوره، مصدر راحة للآخرين. ولقد قال أحد آباء الجبل المقدّس موجّهًا كلامه إلى أحد رؤساء الأديار: “لا تقل لي كم يصوم الرهبان، ولا تحسب عدد الساعات الطوال التي يقضونها في الخدم الكنسيّة، لأنّ هذا، وإن كان حسنًا بحدّ ذاته، إلاّ أنّه لا يعني شيئًا إن لم يقرنوا تأمّلاتهم بأعمال المحبّة، فيعزّوا المتألّم، ويساعدو الموجوع، ويحرّروا المقيََّد بحبال الشيطان وفخاخه. إنْ قاموا بهذه الأعمال، اعلم أنّهم في تقدّم روحيّ، وإلاّ فالسعي ناقص إنْ لم نقل باطل. لأنّ الراهب يؤمن بهذه الكلمات: “إنْ رأيت أخاك، فأنت ترى الله نفسه”.
** كلّ راهب يسعى لأن يعمل شيئًا دون أن يكون هو نفسه شيئًا هو في ضلال عظيم. وكلّ دير يسعى ليكون معروفًا ومشهورًا، يهمّه مظاهر الأمور، وأن يثير الضجة حوله مؤثرًا كلّ هذه على السكينة والهدوء. إنّ ديرًا كهذا مسيرته منحرفة ويسير فيالضلال.
** كلّ راهب لم يأت إلى الدير وله هدف الموت عن العالم، بل ليُعرف ويُشتهر، وكلّ راهب لا يرى في الرهبنة طريقًا إلى التألّه، ينكر جوهر التقليد الرهبانيّ، ويسير في طريق الضلالة.
** من المهمّ جدًّا أن نعرف أنّ عمل الراهب الأساس الذي من أجله ولج الدير هو التواضع وإخلاء الذات، ونقاوة القلب، وتنفّس الصلاة، واحتراق القلب شوقًا لخلاص الخليقة كلّها. ولكنّ العمل الأكمل للراهب هو إظهار حياة يسوع عبر حياته المتسامية عن العالم. إنّ رهبانًا كهؤلاء، لا بل إنّ اديارًا تحوي أمثال هؤلاء الرهبان، لا تحتاج إلى قوّة بشريّة أو سند أو عون، لأنّها حازت الروح القدس سندًا ومعينًا ومعزّيًا.
** الراهب هو الجرّة الموضوعة تحت الصنبور (الحنفيّة)، والمهيَّأة في كلّ لحظة لأن تمتلئ من فيض النعمة. الراهب هو من يشقى يوميًّا ليصبح إنسانًا سماويًّا، يلمع قلبه بمحبّة الله وترتسم على وجهه سكينة السماء وهدوءها.
** إذ قدّم الراهبان لشباب اليوم ما يقدّمه إليهم العالم، يعني أنّ الرهبان فقدوا هدفهم الأساس وأضاعوه. ولكن عندما يلجأ الشباب إلى الأديار، سوف نقدّم لهم، عندئذ، كلّ ما يحتاجونه فعلاً، أيّ القداسة والمحبّة مع الحقيقة، فهذا هذا هو التقليد الرهبانيّ الصحيح. أخاف أن نختبئ نحن وراء ادّعائنا برعاية الشباب، لنصل إلى أهداف شخصيّة بعيدة كلّ البعد عن الأهداف الروحيّة. فالكثير من الآباء القدّيسين جذبوا المئات،لا بل الآلاف، من الشباب، وأصلحوا لهم سيرتهم، وأنهضوهم من سقطاتهم ليس بأقوالهم، فقط، بل بمثالهم وقداسة تصرّفهم. فمن أحبّ الرعاية من الرهبان، فليمارسها خارج الدير (أي ليترك ديره)، ولكن لا ينبغي أن نأتي بالعالم إلى الدير. الدير يرعى، ولكن بطريقة أخرى عن المفهوم الذي نفهمه أو نعرفه. الرعاية الصحيحة هي بتقديس الحياة، وليس بالمناقشات الصاخبة.
** كلّما افتقر الراهب اغتنى (أي كلّما كان فقيرًا مادّيًّا، وطوعًا، كلّما كان غنيًّا روحيًّا)، وكلّما نبذ المجد الباطل، كلّما تمجّد (أي كلّما ابتعد عن المجد، وخضع للذلّ والهوان، كلّما مجّده الله)، وكلّما أحسّ بضعفه تقوّى (أي كلّما أحسّ بضعفه كلّما اتّكل على النعمة، وتقوّى)، مردّدًا قول الرسول: “قوّتي في الضعف تكمل”. الراهب إنسان صلاة لا يطلب معرفة، ولا يسعى وراء كرامة ولا شهرة.
** فضيلة الراهب ليس فضيلة فرديّة يتمتّع بها الراهب وحده، إنّها زينة الكنيسة جمعاء، لأنّه عضو من أعضاء الكنيسة.
** عندما يترك الراهب وطنه وإخوته وأهله وأصدقاءه وأعماله ليُكتتب في المدينة السماويّة أي الدير، يصبح، عندئذ، إنسانًا مسكونيًّا، لأنّ العالم كلّه يتطلّع إلى صلاته، وهو، بدوره، يسند المسكونة بأجمعها بصلاته. هنا تكمن عظمة الراهب.
** لم يعد ثوب الراهب أسودًا قاتمًا، بل ثوبًا منيرًا، لأنّ الراهب يغسله، يوميًّا بدموع التوبة وعرق الجهاد.
** الراهب إنسان جديد، خليقة جديدة بما أنّه يتلقّى معموديّة ثانية أثناء رسامته وتقدمة نفسه ذبيحة حيّة مرضيّة لله. وإنْ سألتني كيف تستمرّ هذه الجِدّة، أجبتك” إنّه الإمساك وضبط النفس والنسك. ولا أعني هنا بالنسك تطبيق القواين والأنظمة والوصايا خارجيًّا فقط. النسك الصحيح عند الراهب هو التضحية بنفسه ومشيئته في كلّ لحظة، وأن ينفي عن نفسه الكسل ورفض الراحة المتواصل والهرب من كلّ متعة. إنّ راحة الراهب الحقيقيّة تكمن في مضاعفة الجهاد، في التعب المعتدل، والنوح البهيّ، والسهرانات والأصوام مع الصلاة غير المنقطعة. بهذه الأمور يتوصّل ليكون خليقة جديدة فيها يكتشف عظمة الله.