والدة الإله كمعلّمة للنسك والصلاة النوسية
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
كما هو معلوم، أنّ في كتابات القديس نيقوديموس الأثوسي المستفيضة جداً، هناك إشارات لا تحصى من المديح لاسم الممتلئة نعمة الفائقة القداسة والدة الإله. ولكن مديح القديس للعذراء البريئة من العيب بشِعره الذي لا يضاهى وقوته البلاغية وعمقه اللاهوتي في تعليقه على تسبيحة والدة الإله، يكشفه واحداً من أهم الكتب عن والدة الإله في الكنيسة الأرثوذكسية.
إن نشيد والدة الإله الذي فيه مريم فتاة الله مجّدت الرب وعظّمته خلال زيارتها للقديسة أليصابات بعد بشارة رئيس الملائة جبرائيل لها، هو بالحقيقة “جدير بالاحترام، وفائق العذوبة والمحبة”، أكثر من أي نشيد آخر لأي من القديسين في كل الأزمنة، لأن التي أنشدته هي “أقدس من جميع القديسين” و”ملكة الكلّ ووالدة خالق الكلّ”.
هذا النشيد الرائع والمثير للإعجاب، مقسّم إلى ستة بيوت شعرية، قد حدد الآباء المتوشّحون بالله بأن يُنشَد نحو نهاية السحرية مع اللازمة الأكثر عذوبة والطروبارية الأكثر وداً: “يا مَن أكرم من الشاروبيم وأرفع مجداً بغير قياس من السارافيم، التي بغير فساد ولدَت كلمة الله وهي حقاً والدة الإله إياك نعظّم”.
في هذا النص المقتضب، سوف نورِد بعض المقاطع المنيرة من تعليق هذا العظيم المحب لمريم حول نشيد والدة الإله، كتقدمة متواضعة من فتات الامتنان وإكرام العظمة الاستثنائية وغير المدرَكة للأم العذراء لأنها “تصيّر الذين يباركونها بوقار ومن دون انقطاع مبارَكين”.
لقد كان تخشّع القديس نيقوديموس عظيماً أمام المواهب الروحية لملكة الكل، حتى أنه يواصل كمثل سيل جارف إلى أن ينشد مديحاً لشرفها: “يا مَن هي الأكثر عذوبة في العمل والاسم، مريم. أيُّ عاطفة هي التي أشعر بها في داخلي؟ أنا لا أستطيع أن أشبع من عظمتك! كلّما ازددت تمجيداً ازداد شوقي إلى ما غير انقطاع، ورغبتي تصير صعبة الارضاء، لذلك مجدداً أرغب في تمجيدها”.
من ثمّ يتابع القديس معدداً كل أولئك المنهمكين “بالفنون والعلوم المنطقية” الذين كلٌ على طريقته يطمحون إلى الأكثر طهارة: علماء النحو، المنطق، البلاغة، الرياضيات، الهندسة والموسيقى والمنشدين والفلكيين وعلماء الأخلاق، والمهندسين والفيزيائيين، الميتافيزيقيين، المرجعيات في الكتب الإلهية، واللاهوتيين وغيرهم.
إن الأمر الأكثر تأثيراً هو أن والدة الإله “تفوق على الملائكة ورؤساء الملائكة وكل جوق الأجناد السماوية، لا بالمقارنة بل بما لا يقارن”، وقد “أصبحت حِلية كل العالم وزينة كل الخلائق وجمال الملائكة والبشر”، و”وحدها تقف على الحد بين الخالق والمخلوق” فهي “خازنة وموزعة ثروة الألوهة” و”متعهّد وحارس ومؤمّن كل كنوز مواهب الله، الملك السماوي”. وبالرغم من كل هذه الصفات يمكن أن نرى انها عاشت كناسكة.
إن النسك الشاق لوالدة الإله، التي بعد صعود السيّد جاهدت “في الصوم والصلاة والسجدات وكل أشكال الممارسة النسكية”، يجب ربطه أيضاً بنشاط الصلاة النوسية التي تُعتَبَر السيدة معلمة لها، لأنها خلال حياتها، وعلى الأكيد خلال الإثنتي عشر سنة التي قضتها في قدس الأقداس، “كانت منشغلة بالثايوريا، أي معاينة الله، ولم تسهب في شيء غيرها… وحيدة، ناظرة إلى الله وحده، ووحده ناظر إليها”.
إن تلك الممتلئة نعمة وجدت بنفسها “النشاط النوسي (براكسيس) والمعاينة (ثايوريا)” ومارستها، والتي من خلالها نوسها “ارتفع فوق كل الخليقة وعاين مجد الله”، وعندئذ نقلت البريئة من كل عيب ما تعلّمت وعلّمته للذين أتوا من بعدها على هذا “الطريق الجديد إلى السماوات”.
يذكرنا القديس نيقوديموس بأن “الله خلق قلب الإنسان ليعود إلى الله دائماً ويعاين خالقه”. تتكوّن هذه العودة من مرحلتين:
في المرحلة الأولى ينبغي أن نصير “يعقوب” أي أن نتحمل الأهواء والشيطان والخطيئة عن طريق “الفضيلة العملية” أي “من خلال الصوم والسهرانيات والسجدات والنوم على الأرض والصلاة والصعوبات وغيرها من الجهادات الجسدية”.
في المرحلة الثانية ينبغي أن نصير “إسرائيل” (“الفكر الذي يعاين الله”) عن طريق “الفضيلة النظرية” أي “من خلال الصلاة النوسية الممارَسَة في القلب، علينا أن نصعد إلى ما يُسمّى استنارة النعمة الإلهية التي تعمل وتوجد في القلب وبالتالي نرفع ذواتنا، أو بالأحرى نُرفَع، بالنعمة إلى الثايوريا الفائقة الطبيعة والمباشرة، أو بالتحديد إلى معاينة الله”.
إذاً، بالممارسة (براكسيس) والمعاينة (ثايوريا)، من خلال النسك وصلاة القلب، مع والدة الإله، التي هي الأم ومانحة عطايا الروح القدس، كمرشد ومعلم ثابت لا يفتر، فلنجاهد دون كلل لتنقية وتطهير الحواس الخمس والخيال والفكر والقلب، لأن وحده “القلب النقي يعاين الله”.
Agios Kyprianos, No. 313 (March-April 2003), pp. 214-215.