ضيوف الله*
إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة
يا لها من ضيافة كريمة أُهديت لنا نحن غير المستحقّين! نعم، إنّ الله المحبّ البشر يستضيفنا في بيته السيّديّ، بيته الكلّيّ الجمال والروعة، بيته الذي لا تجد كلمة “لا يتّسع أو يضيق” لها مكانًا فيه. بيته الذي أنّى أردنا تحرّكنا فيه بحرّيّة تامّة خلوًّا من أدنى مانع أو حاجز، ومهما شئنا فعلنا به بلا أقلّ عائق أو اعتراض، لا بل نقيم فيه من دون تسديد إيجار سكن، أو دفع فواتير الماء والكهرباء و… و… بما أنّه هو نفسه قد تكفّل بذلك. لقد جمّل مضيفنا بيته بأنضر البساتين، وأغناها بأشهى الثمار ما يجعل العجب يأخذنا متساءلين: من نكون نحن لنستأهل ضيافة كريمة كهذه؟!! ولكن، هل يتساءل الابن لماذا يكرمه أبوه؟!!
نعم، إنّنا نحن البشر، أولاد الله، نعيش كلّنا سويّة في هذه الجنّة، الأرض، في هذا العالم الجميل، في ملكيّة الله الذي لا يستضيفنا وحسب، بل يهتمّ، أيضًا، بإعالتنا.
فتعالوا معي لنتأمّل هذه الحقول الشاسعة التي تمدّنا بالقمح والشعير والذرة… وبهذه الرياض الغنّاء المفروشة ببساط أخضر زاهٍ يأخذ بمجامع القلوب. انظروا إلى هذه الأشجار التي لا عدّ لها المحمّلة بمختلف أنواع الثمار من فاكهة وخضار بعضها لفصل الشتاء، وبعضها لفصل الصيف. لقد قصد الله أن يزرع في حقوله هذا الكمّ الهائل من الأشجار لكي تمدّ كلّ ضيوفه الأعزّاء بالغذاء الشهيّ على مدى العصور.
فهل أملت بالك إلى حرص هذا المضيف على إرضاء ذوق ضيوفه؟ لا مشاحة أنّ محبّته الكبيرة لنا هي التي شاءت تنوّع الثمار واختلاف مذاقها ورائحتها ولونها وحجمها، والتي كوّنها بحكمة عجيبة كلّيّة، إذ يتفرّع عن كلّ نوع منها أنواع ترضي أذواق الجميع. وليس هذا فقط، بل أوجد ثمارًا صالحة للأكل، وأخرى صالحة لصناعة الطبّ، وثالثة صالحة لغذاء الحيوان، وكلّها لخدمة ملك الكون: الإنسان. كلّ ثمرة تمسك بها تحمل الحياة في داخلها، الحياة بأكملها. فلقد حرص الخالق على أن تكون داخل كلّ ثمرة بذرة الحياة، حتّى إذا ما زُرعت تعطي ثمرة أخرى وهكذا تستمرّ الحياة… يا لحكمة الله ما أبعدها عن الاستقصاء!! (رو 11: 33). إنّ محبّة الخالق العظيمة لم تشأ أن يتنعمّ جيل واحد فقط بهذا الخير، بل وأمّن الثمار على ممرّ أجيال ضيوفه، أوَ ليس هو القائل في سفر التكوين: “وقال الله لتنبت الأرض نباتًا عشبًا يبزر بزرًا وشجرًا مثمرًا يخرج ثمرًا بحسب صنفه بزره فيه على الأرض، فكان كذلك” (تك 1: 11).
ولكي يكتمل جمال صورة الخلق نثر هنا وثمّة زهورًا بديعة الألوان والأشكال، ورياحين زاهية تعطّر الأرض بشذاها الفوّاح، ليمتّع أنظار ضيوفه، فيشرقون ارتياحًا وسرورًا. ولكي يسبغ عليها الحياة أمر الطيور أن تقف على أغصانها لتشنّف آذان سامعيها بأجمل الألحان وأعذبها.
ولعظم محبّة مضيفنا، وضع تحت إمرتنا البحار والمحيطات بكلّ خلائقها، وكلّ ذلك لئلاّ يتوقّف أودنا على القمح، فقط، كغذاء. فكلّ أنواع الأسماك تخضع لنا كما ترنّم داود الملك والنبيّ منشدًا: “فما هو الإنسان حتّى تذكره أو ابن الإنسان حتّى تفتقده؟ أنقصته قليلاً عن الملائكة بالمجد والكرامة كلّلته وعلى أعمال يديك أقمته. أخضعت كلّ شيء تحت قدميه الغنم والبقر جميعًا وحيوان البرّ أيضًا وطيور السماء وأسماك البحر السالكة سبل البحار” (مز 8: 4-9).
وميّز هذا المضيف العجيب بيته بحركة للحياة لا تهدأ تخدم مصالح ضيوفه بطريقة عجائبيّة مدهشة: الينابيع، الشلاّلات، البحيرات، السواقي، والأنهار التي لا تنضب. فلو تأمّلت معي، قليلاً، كيف وُجدت هذه المياه، أو ما هي الكمّيّة اللاّزمة لاحتياج بيت الله هذا الرحب، وكيف تدور هذه المياه دورتها بعد أن استفادت منها ملايين الضيوف في سقاية أراضيهم وحقولهم ومراعيهم وبساتينهم وغاباتهم، وبالرغم من هذا الاستهلاك الواسع لم تنقص هذه المياه بل صبّت ثانية في البحار، لا بل تأمّل كيف أنّ الغيوم تتلقّفها لتعود وتروي الأرض ثانية. يا لها من حركة عجائبيّة مدهشة لا تنتهي!!! ويا له من إبداع منظّم، وخلق دقيق مرتّب يفوق عقل الإنسان وحكمته!!!
ولم يسه عن بال مالك هذا البيت تنظيم حركة النور والحرارة خدمة لضيوفه الأحبّاء. فأوجد لهم نيّرًا واحدًا كبيرًا ينير ويدفئ، إنّها الشمس التي تفي بحاجة الجميع: تنير ملايين الضيوف، وتدفئهم، شرقًا وغربًا، ومجّانًا!!
إنّها الشمس، أيضًا، التي تمدّ القمر والنجوم بالضوء لكي لا يلفّ الظلام ضيوف الله، وتنشر العتمة ظلّها الرهيب عليهم، فيتكدّرون ويضطربون. ولكن، أنّى لنا أن نحيط بكلّ ما أوجده لنا هذا الأب الحنون من جبال شاهقة العلوّ ووديان سحيقة، إلى سهول خصبّة وصحاري قاحلة، إلى غابات ترطّب الجوّ وحيوانات وحشرات على أنواعها، وأخيرًا إلى أمير هذا الكون وحاكمه: الإنسان؟ يا لعظمتك، يا خالق الكون، فالمجد لك.
وهنا يطرح السؤال نفسه: ما هو الأمر الذي يتوجبّ علينا القيام به عرفانًا بالجميل تجاه هذه الضيافة التي لا مثيل لها؟!! إنّ هذا المالك السماويّ لهذا الكون برّمته لا يطالب بشيء سوى بشكر صغير وصلاة قليلة نوجّهها إليه. فلنحاسب، إذًا، ضميرنا، ونجلده إن كان متقاعسًا في هذا الشأن، ونسأل ذواتنا هل نحترم نحن ملكيّة هذا المضيف السماوي الكريم ولا ننزل بها الضرر؟ يجب ألاّ يغيب عن بالنا بأنّنا لسنا ضيوفًا فقط، بل، ومدبّري الخليقة ومستعملوها أيضًا. كما لا ننسى أنّ الله عندما وضع آدم في الفردوس الأرضيّ أعطاه وصيّة “ليفلحها ويحرسها” (تك 2: 15)، ولكن كيف؟ من البديهيّ القول: بمحبّة وأمانة الوكلاء الأمناء (لو 12: 42)، لأنّه إذا لم نعرف ما نتلقّى، فلن نتحرّك لنحبّ.
لقد صدرت تحذيرات متعدّدة في السنوات الأخيرة من المختصّين بأن ننتبه إلى محيطنا وبيئتنا وألاّ نفسدها ونفنيها ونلوّثها بما فيها البحار. كلّ هذا صحيح وواجب، ولكن هذا جانب واحد، فقط، يعبّر عن المعروف بالجميل للخالق، وأمّا الجانب الآخر والأهمّ هو أن نصل إلى علاقة حميمة معه، هو الذي سيضيفنا أبديًّا معه في السماوات. فإن كانت ضيافة هذا الآب السماوي كريمة وسخيّة بهذا المقدار فى هذه الأرض، فكم وكم ستكون غنيّة في الحياة الآتية في ملكوت السماوات حيث لن نكون في ما بعد ضيوفًا عابرين لوقت قليل، بل أبناء وورثة له!! فلا ندعنّ، إذًا، الأدنى يغلب الأفضل، أي لا نتوهنّ في جمالات خالق الكون، متغافلين عن خالق الكون، جاحدين لمعروفه!!!
* عن مجلّة الشباب اليونانيّة.