هل القداسة ومعاينة الله بمتناول الجميع؟
الأرشمندريت أفرام كرياكوس
في الحقيقة، الموضوع غير سهل. موضوع الكلام على الإتحاد بالله أو القداسة، موضوع سهل وغير سهل في آن واحد. هذا الإنجيل يدعونا كلّنا، نحن المؤمنين أن نكون قدّيسين: “كونوا قدّيسين كما أنّ أباكم السماوي قدوس” (1بطرس 16:1) أو كاملين (متى48:5) وفي مكان آخر، يقال: “ليس قدّوسٌ سواك يا رب”.
إذاً القداسة هي من الله، ليست من الإنسان لأن القدّيس الوحيد هو الله. لذلك لا يستطع أحد من البشر أن يطمح أن يلبس القداسة وحده بدون الله: هذه نقطة رئيسية في الموضوع كله.
لا بدّ أولاً أن نذّكر ببعض الحقائق الكنسية المستقاة من خبرة القدّيسين ونحن على درب القداسة. القداسة هي من الروح القدس. القداسة هي من صنع الروح القدس، أو إن شئتم هي من عمل النعمة، نعمة الروح القدس. هذه النعمة الإلهية موجودة فينا موجودة منذ المعمودية. هذا يعني أن لدينا إمكانية التقديس، إمكانية الإتحاد بالله ومشاركة الحياة الإلهية (2بطرس 4:1)، عن طريق الأسرار الكنسية المقدّسة، خصوصاً المعمودية والميرون والمناولة. يقول القديس نيقولا كباسيلاس: “الأسرار المقدسة قنوات تنقل إلينا النعمة الإلهية”. هذا أمر مهم لنا كلنا في حياتنا في الكنيسة.
كيف يمكن لمَن لا يواظب على الكنيسة وعلى الأسرار الإلهية أن يكتسب النعمة الإلهية إذ “بالنعمة أنتم مخلّصون” (أف5:2و8)؟ هذا الأمر يفسّر الكثير من الانحرافات الحالية في العالم خصوصاً عند المسيحيين الذين ابتعدوا عن الكنيسة وعن أسرارها المقدسة.
يريد مني قدس الأب جرمانوس أن أحكي عن سبل توصّل الإنسان المسيحي العادي، لأن يتقدّس أو على الأقل أن يسير على طريق القداسة؟ في الكنيسة الأولى، كما نرى واضحاً في أعمال الرسل، كان المسيحيون يواظبون على حياة الكنيسة. “كانوا يواظبون على الصلاة، وتعليم الرسل، وكسر الخبز، وكان كلّ شيء فيما بينهم مشتركاً” (أعمال42:2 و32:4)، كانوا كلهم ملتزمين، لهذا نفهم القانون الذي يقضي بحرمان المسيحي من عضويته في الكنيسة إذا غاب ثلاث مرات متتالية عن القداس الإلهي.
والرسول بولس في رسائله إلى أهل أفسس، كورنثوس، الخ… كان يدعو المؤمنين “قدّيسين” لأنه يعرف أنهم ملتزمون في حياة الكنيسة، ممارسون، أعضاء أحياء لا مجرّد مسيحيون بالاسم. هذا أول شرط للسير في طريق القداسة: الالتزام بالكنيسة، المواظبة على الأسرار الكنسية وخصوصاً القدّاس الإلهي، هذا ما ينقصنا في مجتمعنا الحاضر، خصوصاً عند الجيل الجديد، حتى تفعل نعمة الله فينا ونتقدّس ونقدّس الآخرين.
يقول أحد الآباء المعاصرين، الأب بورفيريوس، أن الإنسان الذي يعيش مع الله ويحمل نعمة الله فاعلة فيه، يؤثّر على الآخرين وينقل هذه النعمة إلى الآخرين بمثابة طاقة إلهية تفعل في الآخرين وتقدّسهم. هكذا تفعل الصلاة حتى ولو كان بعيداً مكانياً أو كان ميتاً هذا كله فعل النعمة الإلهية.
كيف تفعل هذه النعمة الإلهية والمؤلّهة للإنسان؟ هنا تكمن النقطة الأساسية التي توضح موضوع القداسة ومعاينة الله والإتحاد بالله أو على الأقل السير في هذا الطريق. هذه النقطة يوضحها لنا الآباء والقدّيسون ونحن بدورنا نختبرها ولو بشكل جزئي أو متقطّع.
النعمة الإلهية، كما قلنا موجودة في الإنسان منذ المعمودية ونحن في الكنيسة نتدرّب على العيش مع الله من خلال الصلوات والأصوام، من خلال الأسرار وطبعاً تطبيق الوصايا الإنجيلية. هذه هي الخطوة الأولى المطلوبة من الإنسان المسيحي: تطبيق الوصايا والعيش في الكنيسة.
النعمة الموجودة في الإنسان هي نعمة كامنة بالقوة كطاقة موجودة بالقوّة. هذه النعمة كما سبقنا وأشرنا سابقاً يكتسبها الإنسان منذ معموديته على اسم الثالوث القدّوس ممّا يعطيه إمكانية الاتصال بالله. نحن المخلوقون لا نستطيع الاتصال بالخالق إلاّ عن طريق هذه النعمة الإلهية غير المخلوقة. “وبنورك نعاين النور”: أي عن طريق شيء من الله يبثه فينا.
هذه العمليّة، عملية الاتصال بالله أو معاينة الله، تحصل عندما تكون النعمة الإلهية فاعلة في الإنسان أي عندما تتحوّل “الطاقة بالقوّة” إلى “الطاقة بالفعل”. عند ذلك يبدأ الإنسان يشعر بحضور الله. هذا الإحساس بحضور الله مرتبط بعمل النعمة الفاعلة في الإنسان. وهو البرهان واليقين لوجود الله. كثيرون من الناس يصلّون دون أن يشعروا بشيء، هذا لأن النعمة لم تبدأ بعد بالعمل في داخلهم.
الإيمان عند الإنسان المسيحي مطلوب أولاً وهو بحسب الرسول بولس “الثقة بالأمور المرجوّة وتصديق الأمور غير المنظورة” (عب 11:1). لكننا نحن لا نؤمن فقط بالله بل نودّ أن نعيش الله أن نشعر بوجوده، أن نعاينه. هذا على الرغم مما قيل “طوبى للذين آمنوا ولم يروا”. المعاينة هنا ليست مادية بالعيون الحسّية بل بالعيون الروحية.
نعود ونطرح السؤال: كيف تصبح النعمة فاعلة فينا لكي نعاين الله ونشعر ونتحسّس حضوره فينا؟ هناك شرط أساسي معروف في اللاهوت الشرقي الأرثوذكسي ألا وهو نقاوة القلب: “طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله” (متى 8:5). هنا تكمن مساهمة الإنسان، حريّته، إرادته، هذا ما يشرحه بصورة جليّة القديس ذياذوخس فوتيكيس في كتابه الجميل “في المعرفة الروحية”.
لا بدّ للإنسان أن يبدأ بالخطوة الأولى حتى تبدأ النعمة الإلهية تفعل فيه. الله لا يعمل في الإنسان دون إرادته. إنه يحترم حريّته. هذه الخطوة الأولى وهي معروفة عند الآباء بمرحلة التطهير من الأهواء.
يأتي كلّ التعليم اللاهوتي وراء هذا القول. إذ إن إيماننا أو عقيدتنا تقول أن الإنسان سقط يوماً ما وأصبح قلبُه مظلماً، لذا نرى الكثيرين يقولون إنهم ضائعون ويفتّشون عن الحقيقة. هذا السقوط والظلام الذي يتبعه ناتجان طبعاً عن الخطيئة، ليس فقط خطيئة آدم بل كلّ خطايانا. من هنا نسمع كلام السابق القديس يوحنا المعمدان ومن بعده كلام الرب يسوع في بشارته، إذ يدعوان إلى التوبة بقولهما: “توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات” (متى2:3 و17:4). إذاً الشرط هو التوبة أو التنقية. من هنا نفهم أهمية الصوم، إنه الباب لملكوت السماوات، انه زمن التوبة، زمن التنقية، تنقية أو تطهير الإنسان جسداً ونفساً وروحاً. الصوم ليس هدفاً، إنه وسيلة. حتّى الصلاة وسيلة. الهدف هو المسيح، العيش مع المسيح، مع الله، معاينة الله أو الإتحاد به، هو أن نشعر بحضور الله في حياتنا، في كلّ جوانب حياتنا. الهدف هو القداسة.
كيف يمكن أن تكون حياتنا ممتلئة من حضور الله، كيف يمكن لأعمالنا أن تكون كلها تمجيداً لله؟ هذا كله، مرّة أخرى، يتطلّب توبة، تطهيراً للنفس من كلّ غشاوة أو ظلمة، يتطلّب صوماً عن كلّ هوى أو شهوة ضارة، عن كلّ شيء يعيق هذه الطريق السائرة إلى القداسة.
إذا كنا فعلاً نريد الوصول إلى الله، علينا أن نُزيل كلّ عائق يمنعنا من الاقتراب إليه. طبعاً مَن يقترب من الله، يقترب من الآخرين. مَن يحبّ الله، يحبّ الآخرين. لذلك الصوم يرافَق بالصلاة وبأعمال الرحمة. هناك جهاد توبة أي صلاة وصوم ورحمة. والله يؤازرنا في هذا الجهاد حتى الموت. طالما الإنسان في هذا الجسد، عليه أن يتوب كونه معرّضاً دائماً للتجربة. لكن كلّما تقدم في جهاد التوبة يزداد فعل نعمة الله فيه. هذه النعمة كامنة في أعماق القلب. إذا استنار الإنسان وطهّر قلبه، كما نطهّر الزجاج المغشى بالأوساخ والغبار، أخذت النعمة تتحرك وتملأ كيان الإنسان وحتى حواسه الخارجية. يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث: عند فعل النعمة الإلهية في الإنسان تصبح حواسه حواس المسيح: كلامُه كلام المسيح، فكرُه فكرَ المسيح حتى يداه يديّ المسيح… وكذلك الأب برفيريوس يقول: يصبح الإنسان شفافاً يرى حتى نفوس الآخرين، يصبح “رائياً”، يرى حتى الله بنعمة الروح القدس: “الروح القدس يفحص كلّ شيء حتى أعماق الله” (1كور10:2). إذا ابتدأت النعمة الإلهية تفعل في الإنسان التائب، يتوق هذا الأخير نحو إنكار الذات ويدخل في نطاق المحبة الإلهية “المحبة التي لا تطلب ما لنفسها” (1كور5:13).
الصوم ليس إماتة للنفس، هو لتهذيب النفس، لتطهيرها من أدران الخطيئة. إنّه تهيئة للقاء مع الله، تهيئة للفصح. هنا أودّ أن أذكر لكم ما يقوله الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية: “ليس ملكوت الله أكلاً وشراباً بل هو برّ وسلامٌ وفرحٌ في الروح القدس” (رو17:14). هذا ما نعرفه أيضاً عند بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: “وأما نمو الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف” (غلا 22:5). هذا عندما تبدأ الفضائل الإنجيلية بالظهور لدى الإنسان.
الإنسان الدنيوي يعتقد أن الحياة كائنة في معيشته، في تأمين حاجات المعيشة، وهذا شيء شرعي. لكن أن يرى الحياة في تأمين الرفاهية والراحة فهذا شيء خطر، يمكن أن يقود إلى الخطيئة. لذا، نرى الكنيسة ترتل في الأحد الخامس من الصوم، في ذكصا الإينوس في السحر: “ليس ملكوت الله طعاماً وشراباً. بل برّ ونسكٌ مع قداسة”. لماذا عدّلت الكنيسة كلام بولس في رومية، هذا لأنها أرادت في الصوم الكبير، في أحد البارة مريم المصرية كما في أحد الصليب وأحد القديس يوحنا السلمي، أرادت أن تشدّد على النسك، نسك التوبة للوصول إلى القداسة والى الفضائل الإنجيلية. النسك هو التمارين الجهادية التي من شأنها أن تقود إلى التوبة، ومن التوبة إلى الاستنارة ومعاينة الله والقداسة. لا بدّ من التعرّي من حبّ الذات لكي تفعل فينا نعمة الروح القدس وتُثمر بالفضائل، لا شكّ أن تقليد كنيستنا تقليدٌ نسكي.
ما أريد أن أقوله في الخلاصة أنّ هذا المشروع المعروض علينا، مشروع القداسة كما يدعونا الإنجيل إليه “كونوا قدّيسين”، مشروع معروض على الجميع، جميع المؤمنين وليس فقط على الرهبان. مَن هم القديسون في النهاية؟ يقول القديس افرام السرياني إنهم التائبون العائدون إلى الله. لا بدّ للإنسان المسيحي في عصرنا أن يكون صادقاً مع نفسه، مع الله، مع إيمانه، مع الناس. لا بد لي أن ألتزم مع المسيح، مع وصاياه، مع كنيسته. هذا الذي ينقصنا. لا يوجد حلّ وسط في المسيحية، لا يوجد ميوعة في تقليدنا. لا يمكن لي إذا أردت القداسة أن أحضر القداس شكلياً وآتي إلى الكنيسة كواجب اجتماعي فحسب. الطريق ضيّق ويطلب تعباً وربما يتعرّض المؤمن اليوم إلى الاضطهاد، ليس فقط في الكنيسة بين أهله بل أيضاً في العالم في مصالحه. الله موجود وهو يحميه ويوفّقه.
الزمن الحاضر زمان توبة وعلى كلّ واحد منا أن يلتزم بأسرار الكنيسة ليس فقط بسرّ الأفخارستية، أي القداس والمناولة، بل أيضاً بسرّ الاعتراف والتوبة. هكذا تفعل فيه النعمة ويمكن له أن يتذوّق شيئاً من فرح الملكوت، شيئاً من ثمار الروح القدس ممّا ينتظرنا في الحياة الآتية. يكبر ويقترب من الموت ولا يخاف إذ قد عرف ولمس أن شيئاً أفضل ينتظره في الملكوت الآتي.
حديث ألقي في كنيسة السيدة الأرثوذكسية، راس بيروت، في 27-3-2006