المطران إغناطيوس (حريكة)
سامر جورج عوض
1-نشأته:
هو نجيب بن عبد الله حنا حريكة، والدته فوتين إبراهيم جورج، ولد في قرية بترومين، قضاء الكورة (شمال لبنان) في 6 اّب سنة 1894. تلقى علومه الابتدائية في القرية، ثم في المدرسة الروسية في أسكلة طرابلس. وفي سنة 1906 أدخله مطران طرابلس حينها غريغوريوس حداد (البطريرك غريغوريوس الرابع لاحقاً) إلى مدرسة البلمند حيث حاز على الشهادة الإعدادية، وفي سنة 1909 كان نجيب من بين الطلاب الثلاثة الذين أرسلهم غبطة البطريرك غريغوريوس إلى مدرسة خالكي اللاهوتية في الأستانة، وكان حينها عدد سنوات الدراسة سبع، تتوزع بين أربعة في الثانوية وثلاثة لدراسة اللاهوت. وفي صيف سنة 1914 بينما كان عائداً لإكمال دراسته في الأستانة، أُعلنت الحرب العالمية الأولى فأغلق مضيق الدردنيل، وقد حاول مع أصدقائه الوصول إلى اسطنبول عبر دده أغاج (الميناء البلغاري) ثم أزمير، ولكنهم لم يفلحوا وهكذا بقي نحو ثلاثة أشهر يتحول بين أثينا وتسالونيك وجبل اّثوس، منتظراً أفول الحرب و لمَّا تبين له أنها ستطول عاد إلى لبنان. وهكذا حالت الحرب دون تمكنه من إكمال دراسة اللاهوت، حتى بعد انتهاء الحرب سنة 1918 وذلك لانخراطه بالسلك الكهنوتي وتسلمه مسؤوليات عدة إلى أن تولى عصا الرعاية الأسقفية في حماه.
وفي صيف سنة 1914، ارتسم نجيب شماساً إنجيلياً باسم إغناطيوس في دير سيدة البلمند، و بعد ذلك حاول العودة إلى مدرسة خالكي إلا أنه اضطر للمكوث ثلاثة أشهر في البحر ولم يتمكن من الوصول إليها فعاد إلى دير سيدة البلمند. وفي سنة 1915 دعاه المطران رفائيل (نمر) مطران حلب ليتولى إدارة المدارس الملية هناك و ليكون نائباً أسقفياً، فلبى الدعوة وبقي في حلب حتى نهاية سنة 1917.
وفي سنة 1918 انتقلت البطريركية الأورشليمية بأمر القائد التركي جمال باشا من القدس إلى دمشق، لاقترابها من جيش الحلفاء، فدعا البطريرك غريغوريوس إغناطيوس (والذي كان قد رُقِيَ إلى رتبة إرشمندريت) ليكون مضيفاً للبطريرك الأورشليمي داميانوس وأعضاء مجمعه. وفي أواخر العام عينه انتدبه البطريرك ليكون مفتشاً على دير القديس جاورجيوس بعهد رئيسه إيصائيا عبود، وقد تمكن أثناء قيامه بمهمته هذه أن ينقذ أملاك الدير التي كانت قد حجزتها الحكومة التركية بحجة أنها أملاك محلولة (لا مالك لها).
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918 عينه البطريرك غريغوريوس رئيساً لدير سيدة البلمند، فأعاد المدرسة التي كانت قد توقفت أثناء الحرب، وبقي في هذه المهمة ثلاث سنوات إلى أن عينه البطريرك غريغوريوس وكيلاً بطريركياً لأبرشية كيلكيا (مرسين) سنة 1921، ولكن لم يسعه الذهاب إليها بسبب الحوادث بين الأتراك والفرنسيين فبقي في لواء الأسكندرونة مع صديقه الأرشمندريت حنانيا كسَّاب، وقد أسسا أول مطبعة وأول جريدة في اللواء باسم الخليج، و في سنة 1924 دعاه البطريرك غريغوريوس إلى دمشق وولاه الوكالة البطريركية.
2-تولي عصا الأبرشية:
وفي 26 شباط شرقي سنة 1925 انتقل إلى الأخدار السماوية مطران حماه غريغوريوس جبارة فأنتدب البطريرك إغناطيوس وكيلاً بطريركياً للأبرشية، و مهمته كوكيل بطريركي تنحصر في إدارة الأبرشية إلى حين انتخاب خلف للمطران الراحل، وكان عليه الأشراف على معاملات الترشيح. بدأ مهمته بنشاطه المعهود وإدارته الحكيمة، حيث نجح بكل المهمات التي أسندت إليه قبلاً، فلقد باشر أمره بإدارة أمور الأبرشية واجتمع مع المجلس الملي بحماه من أجل تصريف الأعمال وتداول مع الأعضاء كيفية إيفاء الديون لأصحابها، و بناء الكنيسة الجديدة والأوقاف والمدارس التابعة للملة، ثم باشر عمله بالنسبة لترشيح خلف المطران الراحل، وبناءاً على طرس بطريركي أرسله البطريرك إلى عموم الشعب الأرثوذكسي في حماه، وآخر إلى المعتمد البطريركي شخصياً كي يقدموا إلى غبطته أسماء ثلاثة مرشحين من إكليروس الكرسي الأنطاكي، في مضبطة عمومية ممضية ومختومة منهم جميعاً حسب الأصول المرعية الإجراء كي يقدمها البطريرك إلى السادة مطارنة المجمع، فينتخبوا واحداً منهم خلال أربعين يوماً من تاريخ رسالة غبطته، وقد اجتمع المعتمد البطريركي مع المجلس الملي والكهنة المنتدبين عن الجمعيات والرعايا بناءً على رسالة غبطته، وقد رشحوا كلاً من الأرشمندريتيية: تريفن غريب(مطران اللاذقية لاحقاً)، وإغناطيوس حريكة، وإيليا الصليبي، ورفعت مضبطة الترشيح إلى غبطته، ثم بعد ذلك أرسل غبطته رسالة يطلب فيها إعادة الترشيح بعد أن طلب الأرشمندريت تريفن الاستعفاء، والأرشمندريت إيليا العزوف لأسباب صحية، فعاود المعتمد البطريركي الاجتماع ورشح المجتمعون الإرشمندريتيية: إيصائيا عبود، وإيليا اسطفان، وإغناطيوس حريكة، وأرسلت أسمائهم بمضبطة إلى غبطته. وقد انتخب المجمع الأرشمندريت إغناطيوس حريكة مطراناً على أبرشية حماه وتوابعها في 6 تموز سنة 1925، وشُرطن في 13 منه، وفي 15 تموز دخل المطران الجديد حماه كأول مرة مطراناً عليها.
بدأ سيادته مهامه الجديدة وسط جو عام عصيب من الناحيتين السياسية والاقتصادية، فكانت المرحلة انتقالية من الاحتلال التركي بعد الحرب العالمية الأولى إلى الانتداب الفرنسي، والثورات التي قامت ضد الاحتلال. إلا أن المطران إغناطيوس ما إن دخل حماه، حتى بدأ يتفقد الرعايا ويستمع إلى مشاكل أبناءها ويحل ما يستطيع حله، وكان يتابع المشاكل في الرعايا البعيدة عن مقره الخاص من خلال الكهنة، حتى أنه كان يحل المشاكل التي كانت تستعصى على الحكومة، وهذا دليل دامغ على أن كلمته كانت مسموعة بين أبناء رعيته.
3-عمله الرعائي والإنمائي والروحي:
لم يدخر جهداً ولا مالاً في سبيل تخفيف الأعباء المعيشية الملقاة على كاهل أبناء الأبرشية، فوضع المجلس الملي مبلغاً من المال تحت تصرف (جمعية عضد الفقراء)، وطلب من الجمعية بناء الكنيسة الجديدة بحماه، وأن تتصرف بمبلغ من المال لمن يريد أن يستدين من الفقراء، فإنه لم يدخر مما للكنيسة في سبيل مساعدة أبنائها، كما ودأب على مساعدة الأرامل واليتامى مستلهماً عمله من روح الإنجيل “كنت جائعاً فأطعمتموني، وغريباً فآويتموني”.
لم يقتصر عمل سيادته الرعائي على أبناء الأبرشية بحماه بل تعدى ذلك إلى المؤمنين في الخارج، حيث أهتم بشؤونهم وزار أمريكا الجنوبية عدة مرات وجمع التبرعات لدعم مشاريع الأبرشية التنموية والروحية. وقد دعم العمل الرعائي بالبناء الروحي حيث كان يزور كنائس الأبرشية بصورة دورية، ويكرز بالكلمة الإلهية، ويبدأ عظاته بأقوال الحكمة من سليمان و النبي داود أو بأقوال أحد المصلحين الاجتماعيين، كزرادشت و من ثم ينتقل إلى صلب العظة يسوع المسيح. اهتم سيادته كثيراً بالكهنة وحرص على تثقيفهم باللاهوت كي يكونوا خير سند له في عمله الرعائي، وقد أرسل الشباب الذين يسعون لكي يصبحوا كهنة إلى كليات اللاهوت المتوزعة في أصقاع العالم الأرثوذكسي، وكل هذا الاعتناء كان يواجه بصعوبة الأحواال الإقتصادية والمعيشية، كما وبنى كنيستين في حماه ومحردة على اسم القديس جاورجيوس، وأمَّن الأواني المقدسة والبدلات الكهنوتية للكنائس المحتاجة.
شجَّع نشاط حركة الشبيبة الأرثوذكسية الروحي، ووافق على قيام أعضائها بالتعليم المسيحي في المدارس التابعة للطائفة، وطلب من مديري مدرستي البنين والبنات مؤازرتهم على ذلك، وقدَّم قاعة كبرى من ممتلكات الوقف ليجتمعوا فيها، وشجع أعضائها وحثهم على المضي قدماً في تتميم الرسالة.
اهتم بالإنسان كإنسان، حيث كان أباً للفقراء واليتامى والأرامل، يهتم بهم كما أوصى الكتاب، وقد غبَّر عن هذا الاهتمام بطريقتين: مباشرة من خلال احتكاكه بالمحتاجين، وغير مباشرة من خلال تأسيس الجمعيات سواء من خلال رعايته لها أو التي أنشأها شخصياً. رعى جمعية عضد الفقراء الأرثوذكسية، التي تهتم بالفقراء عموماً، والتلاميذ خصوصاً، إذ كانت تسعى لتخفيف الأعباء عن الأهالي عندما تضيق الحال بهم، فتحمل عنهم عبء تعليم أولادهم، وشعارهم في عملهم الخيري هذا هو القول الإلهي: “تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”. وقد أسس جميعة نور الهدى الأرثوذكسية، التي كانت تُعنى باليتامى من خلال تعليمهم وتربيتهم لتعويض شيء من الحنان والحب للذين خسروه من جراء فقد الأب أو الأم أو كلاهما معاً. وقد أسس جمعية النادي الأرثوذكسي في 1 تموز 1928، والذي أصبح مكاناً لإقامة الاحتفالات لأبناء الطائفة، كما وملتقى لأعضاء الحركة. وقد تأسست سنة 1935 جمعية الطالبات القديمات التي تضم الطالبات اللواتي درسن في المدرسة الأرثوذكسية، وكانت تقيم حفلة سنوية يعود ريعها للمدرسة، وتجمع التبرعات لدعم صندوقها كي تستطيع القيام بواجباتها تجاه التلميذات الفقيرات، ويبدو أن الجمعية الخيرية الأرثوذكسية كانت مؤسسة أول الأمر لمؤآزرة جمعية الطالبات القديمات، وبعد ذلك أصبحت تُعنى بمساندة مدرسة البنين الأرثوذكسية، ومن الجائر القول بأن الجمعيتين والمجلس الملِّي قد كانوا يسعون لجعل التعليم في المدارس مجانياً.
وفي سبيل عمله الإنساني قام سيادته بإبراز فكرة تأسيس مآوى للعجزة يضم الطاعنين بالسن ممن نبذهم ذووهم، أو ممن لا نسب لهم ولا معين، وقد كان هذا العمل بالاشتراك مع سماحة مفتي حماه الأستاذ سعيد النعساني، وفي عهد محافظ حماه الأستاذ فخري رضا، وقد انتخب سماحته رئيساً للدار بإجماع الآراء وسيادته نائباً للرئيس.
في غضون سنة 1960، وتحت رعاية وإشراف سيادته، أسس مجموعة من شبان قرية كفربهم الغيورين جمعية تُعنَى بحفظ أملاك الوقف وصيانتها، وصيانة أراضي الأهالي وتحديدها وإقامة دعاوى للمطالبة بحقوقهم، كما وسعت الجمعية لإيجاد مدخول مالي، كي تستطيع القيام بواجباتها تجاه الفقراء والمساكين. وقد أسهم في المحافظة على مدارس الأبرشية وتوسيعها، وقد كان ثلاث منها في حماه (المدرسة الأرثوذكسية للذكور، والمدرسة الأرثوذكسية للإناث، والثالثة كانت في حارة الفوقاء)، وابتدائية في محردة. وقد أسس في حماه مدرسة نور الهدى الأرثوذكسية، وفي محردة ثلاثة مدارس ابتدائية: الأخطل، وأمين الريحاني، ومدرسة السيدة العذراء.
وقد حوَّل دير السيدة في محردة (أنشأ سنة 1941) إلى ثانوية عامة سنة 1950 باسم (ثانوية محردة)، والتي لم يكن قد بُنِيَ فيها بعد كنيسة، وقد كانت المدرسة الوحيدة في سهل الغاب حينئذ، وقد أنشأ مدرسة ابتدائية في كفربهم مجاورة لكنيسة القديس جاورجيوس. وقد شهدت على عهده الأبرشية نهضة كبيرة على صعيد ازدهار الوقف واسترجاع بعض الأراضي المسلوبة. وقد تأسست سنة 1923 على عهد سلف سيادته المطران غريغوريوس، لجنة بناء كنيسة القديس جاورجيوس ومهمتها جمع التبرعات وتحصيل أموال الوقف لبناء الكنيسة، ولكن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة حالت دون القدرة على إتمام هذا العمل وقد طال مخاض المشروع إلى ما بعد رقاد سيادته سنة1969، والذي ذهب مرات عدة إلى المهجر كي يجمع التبرعات وأقام حملات كثيرة في حماه يعود ريعها لهذا المشروع، ومن الجدير بالذكر أنه تبرع من ماله الخاص بخمسة آلاف ليرة سورية وقد طلب سيادته وضع تصميم لكنيسة في حماه إلا أنه قد تأخر في وضع حجر الأساس إلى 5 تشرين الأول 1958، وللأسف أن المنية قد وافته قبل إتمام البناء، وقد وضع حجر أساس لبناء مستشفى محردة بعد ظهر يوم الأحد 26/9/1965، والذي كان ثمرة تبرع أبناء الأبرشية في حماه والمهجر. وفي ذكرى اليوبيل الذهبي لتأسيس جمعية نور الهدى الأرثوذكسية في 17 تشرين الثاني سنة 1963، أنشأ ميتم جمعية نور الهدى الأرثوذكسية، وقد دشَّن سنة 1956 في المطرانية بناء مطبخ، وغرفة مائدة، وغرفة استقبال، وغرفة مكتب، وشقة صغيرة له مؤلفة: من غرفة وحمام، وشرع في بناء جناح آخر في الجهة الغربية المقابلة للجناح الأول، مؤلف من: ثلاث غرف، وحمام، ومراّب، والثاني مؤلف من: ثلاث غرف، وحمام، وغرفة مكتب كبيرة وقد دشن هذا البناء سنة 1964، وأنشأ منتزه عائلات ليستوعب العائلات ويكون مورداً لدخل الوقف. وقد أنشأ شققاً سكنية يعود ريع الإنتفاع منها إلى الوقف، كما وأنشأ مخازن في قرية السقلبية كان أول الأمر عددها 18، ثم أصبح لاحقاً 24.
4-عمله على الصعيدين الأنطاكي والقانوني:
عُرِفَ سيادته بالحزم في تصريف الأمور في مختلف مجالاتها، وشُهِدَ له بالثبات على المبادئ حتى في أحرج الأوقات وأخلك الظروف، ولنا من جهاده في القضايا والأزمات التي عصفت بالكرسي الأنطاكي أكبر حجة وأجلى برهان وبيان. فقد كان لسيادته دورٌ فعالٌ فيما يختص بأزمة انتخاب البطريرك الإنطاكي سنة 1928 – 1933، وفيما يتعلق بأزمة المجمع والمطران أبيفانيوس زائد سنة 1935-1941. فقد شعر سيادته بالحاجة الماسة لصيانة القانون الملِّي العام، وبدأ من حماه، فبعد أن كانت الأبرشية الوحيدة في الكرسي الأنطاكي التي بدون مجالس ملية، فقد كلف سيادته أمين السر كي يجمع قوانين المجالس الملية النافذة في الكرسي الأنطاكي، و بعد الانتهاء من العمل عرض القانون على أحد القانونين، وفي 15 شباط سنة 1955 اجتمع المجلس الملِّي بحماه برئاسة سيادته، وقرر التصديق على النظام بأكمله والذي تألف من أربع فصول، وتسع وأربعين مادة، وهي:
أ- الفصل الأول: يتحدث عن أحكام عامة، في أربع مواد.
ب- الفصل الثاني: يتحدث عن انتخاب المجالس الملية، في أربع عشر مادة.
ج- الفصل الثالث: يتحدث عن النظام الداخلي للمجلس ووظائفه، في خمس عشرة مادة.
د- الفصل الرابع: يتحدث عن اللجان والمؤسسات الطائفية، في ست عشرة مادة.
وقد صدَّق على النظام مجلس الوزراء السوري، بموجب القرار الصادر عنه رقم 1/ط تاريخ 10/6/1957، ويصدق كل من النظام الأساسي ونظام المجالس الملية، ونظام الأديرة والأوقاف، ونظام الصندوق الملِّي الأرثوذكسي لبطريركية الروم الأرثوذكس الأنطاكية والمُقَرَة من قبل المؤتمر الأرثوذكسي العام والمنعقد في دمشق بتاريخ 18 و 19 تشرين الثاني 1955، ونظراً لفعالية وقيمة ما قام به سيادته على صعيد المجلس الملِّي في حماه، فإن المجمع الأنطاكي لحظ التجربة التي اضطلع بها سيادته مما جعلهم ينتخبون سيادته رئيساً للجنة التنفيذية وذلك أثناء عقد المجلس الملِّي الأرثوذكسي العام اجتماعه في 8 كانون الثاني سنة 1961، برئاسة غبطة البطريرك ثيوذوسيوس (أبو رجيلي) وأما أعضاء اللجنة فهم: إيليا مطران بيروت، وألكسندروس مطران حمص، مع عضوية بعض السادة العلمانيين، وكونه رئيساً لللجنة كان له اليد الطولى في حل الأزمات والمشاكل التي حلت في الكرسي الأنطاكي حينها، ومنها في بيروت وحلب، كما ولعب دور الوسيط بين البطريرك ألكسندروس الثالث(طحَّان) والإرشمندريتين حنانيا كساب، وصموئيل داؤود في قضية أميركا الشمالية سنة 1935، على أثر وفاة مطرانها فيكتور (أبو عسلي)، حيث عرض عليهما بحسب رأي غبطته تقسيم الأبرشية إلى ثلاث أسقفيات، ويكونان على أسقفيتين، والأرشمندريت أنطونيوس بشير على الثالثة، بحيث يكونان تابعين للبطريرك كمعتمَدَيَن بطريَركين، لكمهما قد أبيا ذلك. وقد تعيين سيادته سنة1940 عضو مجلس بطريركي فترة من الزمن ليساند غبطته، ويتألف المجلس من رئيس هو أحد المطرانين اللذين يستدعيان بمرسوم خاص لمدة سنة، ومن مستشارين دائمين، وذلك للنظر في شؤون الأديار البطريركية…..، وقد تعين رئيساً للمحكمة الإستئنافية سنة 1961، وترأس جلسات المجمع لدورته الحادية عشر في بيروت من 5 إلى 8 أيار 1968، بتكليف من غبطة البطريرك ثيوذوسيوس الذي كان يستشفى في مستشفى القديس جاورجيوس في بيروت، وبتكليف خطي من غبطته ترأس أيضاً جلسات المجمع المنعقد لدورته الاستثنائية والتي عقدت في دير مار الياس (شويا) البطريركي ابتداءاً من 19/9/1968، وقد اختار المجمع حينها لجنة مجمعية لتتعاون مع المندوب المجمعي عند الاقتضاء و قوامها أصحاب السيادة: إغناطيوس (حماه) رئيساً، وأبيفانيوس (عكار)، وإيليا صليبي (بيروت)، وبولس الخوري (صور وصيدا)، وإغناطيوس فرزلي (البرازيل). وقد ترأس المطران إغناطيوس جلستين ثم ألمّ به المرض.
كان هاجس سيادته إنشاء مدرسة إكليريكية إنطاكية، ينتاب معظم السادة المطارنة أعضاء المجمع المقدس حيث في اجتماع المجلس الملِّي العام في 23 تشرين الثاني سنة 1956 في مطرانية جبيل والبترون (الحدث) انتهى الاجتماع إلى قرار يقضي بتكليف لجنة قوامها المطارنة: إغناطيوس (حماه)، وإيليا (بيروت)، وإلياس معوض (حلب)، لدراسة قضية إنشاء مدرسة إكليريكية ووضع برنامجها وتحديد مكانها فقامت اللجنة بالدراسة المطلوبة، وانتهت إلى دير سيدة البلمند مكاناً، والبرنامج جامعي (أكاديمي) وقد استطاع كلاً من: المطران إغناطيوس والمحامي اسبيرو جبور(الشماس اسبيرو جبور لاحقاً)، وبعض السادة المطارنة انتزع وعد من مطران أميركا الشمالية انطونيوس (بشير) بربع مليون دولار لإنشاء معهد اللاهوت بدير البلمند في 20 أيار سنة 1964.
5-تمثيله البطريركي ونشاطه المسكوني:
مثَّل سيادته البطريركية الأنطاكية في مؤتمر اّثوس سنة 1930 ما بين 24 أيلول و الأول من تشرين الأول، وقد مثَّل أنطاكية أيضاً في مؤتمر لمبث للكنيسة الأنكليكانية سنة 1930، وقد ترأس الوفد الأنطاكي إلى مؤتمر رودس سنة 1961، والمؤلف من أصحاب السيادة: ألكسندروس (حمص)، الياس (حلب)، والدكتور نجيب ميخائيل الساعاتي، وقد ترأس سيادته اللجنة الثانية من اللجان الست التي شُكلت وعُهِدَ إلى كل منها بحث مواضيع معينة، وقد بحث المجمع عموماً مواضيع كنسية عامة تناولت الإيمان والعقيدة والعبادة والإدارة والانضباط الكنسي وعلاقة الكنيسة الأرثوذكسية بالعالم المسيحي,…..، وقد وضع البيان الختامي للمجمع برنامج عمل مستقل. ترافق سيادته ومطران طرابلس ثيوذوسيوس غبطة البطريرك ألكسندروس أثناء مشاركته في المهرجانات التي أقيمت في اليونان سنة 1951، بمناسبة مرور 1900 سنة على تبشير بولس الرسول بالمسيحية فيها، وقد رافق غبطته مع السادة المطارنة: ثيوذوسيوس(طرابلس)، وفوتيوس(تدمر)، وملاتيوس أسقف أديسا”الرها” (نائبه العام)، إلى استانبول لمباحثة البطريرك القسطنطيني أثيناغوراس بشؤون كنسية عامة وللمشاركة بإحتفالات اليوبيل الذي أقامته مدرسة خالكي اللاهوتية، والتي دعت طلابها القدامى لهذا الإحتفال، كما ورافق غبطة البطريرك ثيوذوسيوس مع السادة المطارنة: نيفن (سابا)، وبولس (الخوري)، وقدس الأرشمندريت جورج (شلهوب)، وذلك خلال زيارته البروتوكولية كبطريرك منتخب حديثاً، وقد توجه الوفد إلى: الكرسي القسطنطيني، وبطريركية روسيا، وزار فيها موسكو وليننغراد وكييف وأوديسا، وبطريركية يوغوسلافيا (صربيا) والكنيسة اليونانية. وقد مثّل سيادته الكنيسة الإنطاكية مع مطران حمص ألكسندروس في الاحتفالات التي أقيمت في جبل آثوس سنة 1963، لمناسبة مرور ألف عام على إنشاء الرهبانيات في الجبل المقدّس، وقد أٌوفِد سيادته من قِبَل البطريرك ثيوذوسيوس مع المطران بولس (الخوري) ليمثلا غبطته في مراسم دفن الملك اليوناني بولس الأول الذي رقد في 6/3/1964، كما وسافر سيادته إلى أمريكا الجنوبية في 1933 و 1939-1940 لتفقد أبناء الأبرشية في المهجر والإطّلاع على أوضاع الرعايا عموماً هناك، وقد عبَّر للمجمع عن حاجة جمهوريتي الأرجنتين والبرازيل إلى معتمد بطريركي برتبة رئيس كهنة، وقد تابع المجمع هذا الموضوع استناداً لتقرير سيادته.
أسس جمعية السيدات الأرثوذكسيات في البرازيل مفسحاً بذلك المجال رحباً أمام المرأة لتشترك في خدمة الكنيسة والوطن والمجتمع، واهتمت الجمعية بمدرسة القديس بولس وتوّلت إدارتها، والتي كانت تشغل إحدى الأبنية المجاورة للكاتدرائية التي دشنها المطران إغناطيوس سنة 1948م، وسعت الجمعية إلى بناء خاص بالمدرسة، وقد أسس فرعاً لحركة الشبيبة الأرثوذكسية في سان باولو ضم شقين: الأول للشباب، والثاني للبنات.
6-ثقافته:
كان مثقفاً، أتقن اليونانية من خلال دراسته في خالكي لأربع سنوات وتبحّر في قراءة سير القديسين وتفاسيرهم وأقوالهم، كالقديسين يوحنا الذهبي الفم، وغريغوريوس اللاهوتي، وباسيليوس الكبير….، وبموازاة ذلك كان يقرأ الشعر العربي القديم: كأبي العلاء المعرِّي، والشريف الرضي، وأبي تمام، والبحتري، وخصَّ المتنبي باهتمام كبير، وقرأ للشعراء الجدد: كأحمد شوقي (أمير الشعر)، وبشارة الخوري، وبدوي الجبل، وخليل مطران، وإيليا أبي ماضي، والقروي، وإلياس فرحات. وقد اطّلع على أعمال الفلاسفة العرب كابن خلدون عالم الاجتماع والمؤرخ والفيلسوف، وفلاسفة الاغريق: كأرسطو، وأفلاطون، وسقراط أسوةً بألياذة هوميروس. وقد قرأ القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وأقوال الصحابة كعمر بن الخطّاب، وعلي بن أبي طالب، ولبعض الأئمة كالامام مالك، وقد قرأ لبعض الشخصيّات الإسلامية كالحلاَّج.
وقد أتقن إلى العربية واليونانية اللغة الفرنسية، واضطلعَ حتماً بلغات أخرى، ويشهد معاصروه أنه حاضر البديهة والحجة، ورجل المواقف الحازمة. كرَّمته أكاديمية موسكو ومنحته العضوية الفخرية فيها، ومن البراهين على ثقافته الواسعة تمثيله الكنيسة الإنطاكية في مؤتمرات لاهوتية عدّة.
7-وطنيته ونشاطاته الإنسانية:
لقد شارك في مؤتمر بلودان 1937، والذي عقده الملوك والرؤساء العرب لشجب مشروع لجنة بيل لتقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق: عربية، ويهودية، واخرى خاضعة للانتداب البريطاني، لما لفلسطين من أهمية كبرى بالنسبة إليه كعربي أولاً ومسيحي بصورةٍ خاصة، وقد أعدَّ مذكرة باسم رؤساء الطوائف المسيحية في سوريا في 17/3/1946، قدَّمها إلى اللجنة الأمريكية البريطانية دفاعاً عن عروبة فلسطين، وقد آزو الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي من خلال مساندته الثورات التي قامت في حماة، وألَّف فرقةً اهتمت بحمل السلاح وإسعاف الجرحى ونقل المؤن والذخائر إلى المقاتلين وقد دأب سيادته على زيارة الجرحى ورافقته في إحدى الزيارات سنة1936 السيدة زوجة أول رئيس للجمهورية العربية السورية الأستاذ محمد علي العابد، وزوجة السيد فارس الخوري رئيس المجلس النيابي السوري. وقد كلفه البطريرك ألكسندروس لترأسً الوفد الإنطاكي في احتفال تكريم الرئيس جمال عبد الناصر في 26/2/1956، والذي أقامه الأرثوذكس العرب وألقى كلمةً ارتجالية عبّر فيها عن فخره بأن يقام هذا الاحتفال في منزل الأمير ميشيل لطف الله رائد الحركة الوطنية في مصر بعد الحرب العالمية الأولى، وقبل الاحتفال بأربعة أيام قدّم الوفد الإنطاكي قلادة الرسولين بطرس وبولس المهداة لعبد الناصر من غبطة البطريرك، وألقى المطران إغناطيوس كلمةً حيّا فيها جهاد عبد الناصر في سبيل العروبة وخدمة الإنسانية وقدّم له رسالة من البطريرك، كما وأرسل الرئيس مع الوفد رسالةً إلى البطريرك. منح وسام الاستحقاق السوري ووسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الأولى، ولا ننسى إنجازاته على صعيد التعاون والعيش المشترك والتآخي بين المسيحيين والمسلمين على صعيد حماة.
8-رقاده:
وفي أواخر سنة 1968 بدأت صحة سيادته تتراجع وأثقل المرض حركته ونشاطه واستمرت حالته بالتدهور إلى أن انتقل إلى الأخدار السماوية في 3/2/1969 عندما كان يستشفي في مشفى النيني بطرابلس.
نعي سيادته من قبل مجلس الأبرشية الملّي، ونقل جثمانه بموكب من مشفى النيني إلى كاتدرائية القديس جاورجيوس في طرابلس حيث أقيم قداس إلهي لراحة نفسه، وقد شارك فيه: الوزير نعيم مجدلاني ممثلاً الرئيس اللبناني، والشيخ قاسم عماد محافظ الشمال، والهيئات الرسمية في المدينة مع رؤساء الطوائف الشقيقة، وقد ترأس القداس المطران إسبيريدون خوري (زحلة)، وألقى راعي أبرشية طرابلس المطران إلياس (قربان) عظةً تأبينيةً عدد فيها مآثر سيادته في خدمة الكنيسة والوطن، ثم توجه الموكب إلى حماة بعد أن أُديَّ للجثمان التحية الرسمية من قبل السلطات المدنية اللبنانية، واستقبلته على الحدود الحكومة السورية بممثلي محافظي حمص وحماة، وبحضور أبناء الأبرشية، وفي حماة استقبل النعش أمام دار الثقافة، وسارت الجنازة مخترقةً شوارع المدينة، وقد شارك في الموكب أصحاب السيادة، ورجال الدولة وعلى رأسهم محافظ المدينة، وقائد شرطتها، وقائد المنطقة الوسطى ممثلاً لوزير الدفاع، أسوة بالمؤسسات الخيرية والجمعيات الطائفية، ودخل الجثمان كنيسة سيدة البشارة محمولاً على الأكّف، حيث سجّي في وسطها ليتسنى للمؤمنين التبرك وإلقاء النظرة الأخيرة.
وفي 6 شباط تمام الساعة الثالثة والنصف قرعت أجراس الكنيسة بأنة حزن على الفقيد الكبير، وذلك إيذاناً منها ببدء صلاة الجنّاز وذلك بحضور ممثلين عن الحكومة السورية والدوائر الرسمية، وبمشاركة أصحاب السيادة المطارنة: أبيفانيوس (عكار)، وإلياس (حلب)، وملاتيوس (الأرجنتين)، وبولس (صيدا وصور)، وإغناطيوس (البرازيل)، وباسيليوس سماحة(حوران)، وإلياس (طرابلس)، وإسبيريدون (زحلة)، وأثناسيوس اسكاف (المعتمد في تشيلي)، وإلياس نجم ممثلاً متروبوليت جبل لبنان، والأرشمندريتين غفرائيل الصليبي وجورج الحاج ممثلين متروبوليت بيروت، وأرموجين (ممثل الكنيسة في روسيا)، والأرشمندريت يوحنا منصور ممثلاً متروبوليت اللاذقية، أسوة بمطران للسريان الأرثوذكس، ولفيف من الكهنة وجمهور غفير من أبناء الأبرشية وآل الفقيد. وفي الختام أبّن الراحل عميد مطارنة الكرسي الإنطاكي، أبيفانيوس زائد، وألقى كلمة الأبرشية السيد سليمان سلّوم، وتكلم السيد محافظ حماة عن مزايا الراحل، ونقل الجثمان ليدفن تحت الكنيسة الجديدة.
الثاني: لا أخفي أنني في هذه المقالة الطويلة، لم أستند بصورة أساسية إلا على أطروحة الطالب (الحموي الأصل) كمال إلياس الرحيل، لذا أدعو القائمين والقيّمين ومن هم في صدد المسؤولية كي يوسعوا قدر الإمكان إمكانية الاستفادة من هذه الأبحاث الضخمة (الأطروحات)، لئلا تبقى أسيرة الأدراج والرفوف، وألا تبقى غايةً بحدِّ ذاتها بل تصبح وسيلة لتحقيق ونشرالمعرفة لمتكلمي وقارئي اللغة العربية.
من مقالاته:
1. الدين والاكليروس في تعليم ألمانيا الابتدائي: يتحدث فيه كيف أن العرب يأخذون مخلفات الغرب لا أكثر ولا أقل، دون جدل وتصفية، وأن التعليم الديني المسيحي في ألمانيا أقرَّ من الحكومة، بحيث يلزم الطلاب على الذهاب إلى الكنيسة كل يوم وليس فقط أيام الآحاد، ويعطى التعليم الديني في المدارس من قبل الكهنة.
2. اللغة التي تكلم فيها السيد المسيح: مقال تاريخي، يستند فيه سيادته على مجلتي “الرباط المقدس” اليونانية، و”صهيون الجديدة”، ويثبت من خلاله أن السيد المسيح قد تكلّم باللغة الآرامية كما اليونانية، عارضاً دلائل وبراهين المجلتين.
3. شاول المضطهد واستفانوس: مقال مترجم، يتحدث عن شاول الطرسوسي (بولس الرسول)، والغيور على يهوديته والذي اضطهد المسيحية، وكيف تأثر باستشهاد استفانوس حين عاين الواقعة، وعند قول استفانوس: “يا رب لا تقم لهم هذه الخطيئة”.
هذا فيما عدى عن مقالاته التي كتبها في المجلة التي أسسها في مدينة الأسكندرونة, مجلة “الخليج”.
وختاماً يسعني التنويه لأمرين:
الأول: ما ميز المطران إغناطيوس هو أنه أحبّ الفقراء والمحتاجين والأرامل فأعطاهم مما عنده، ومنحهم من قُوته وتفكيره ورعايته فبني للمسنين داراً للعجزة بالاشتراك مع مفتي حماة، مدَّ مع المسلمين أطيب الجسور للقاء والتعايش، وأعطى الثقافة جزءاً كبيراً من وقته، وعلى صعيد اللاهوت فله اليد الطولى في تأسيس معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في البلمند، ورعى أبناء الأبرشية في الوطن والمهجر، حتى أن رعايته فاقت حدود المحافظات والدول والانتماءات، فهو قد أحبَّ المسيح فعرف كيف يحبّ وعرف كيف يعبّر عن المحبة، فهنالك فارق في المحبة والتعبير عن المحبة، أمّا المطران إغناطيوس حريكة فقد أحبَّ وعبَّر بالأعمال والأفعال والأقوال لأنه رأى وجه المسيح في كل شيء.
المراجع:
1-الرحيل، كمال إلياس: المتروبوليت إغناطيوس حريكة (متروبوليت حماة وتوابعها للروم الأرثوذكس)، دراسة عن حياته، رسالة لنيل الإجازة في اللاهوت، معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي، 1993.
2-اصدار بطريركية موسكو: تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا وأميركا الجنوبية، دار مكتبة بيبلوس-لبنان ومكتبة السائح طرابلس-لبنان 1959.