جوابي الفوري على جزئي هذا السؤال هو “نعم“شديدة. الله لا يتغير. يسوع المسيح هو نفسه، أمس واليوم وإلى الأبد. وطبيعة البشر لم تتغير هي أيضاً. منذ آدم، البشر مشرَّفون بالسلطة على مصيرهم، حتّى أنهم قادرون، إلى حد كبير، على أن يديروا ظهورهم إلى الله، إلى الحياة الروحية، إلى السعي نحو القداسة. ولكن إلى نهاية العالم، سوف يكون هناك دائماً أناس، حتى ولو أقليّة، يستدعون نعمة الله على الأرض وعلى إخوتهم البشر. إن استمرار العالم هو دليل على وجود القداسة اليوم. يقول القديس سلوان: “أقول لكم أنه عندما لا يعود هناك رجال صلاة على الأرض، يأتي العالم إلى نهايته“.
بعبارة أخرى، الحياة الروحية والقداسة التي هي ثمرتها ليست حصراً في الماضي. يمكننا أن نرى القداسة في أسلافنا ونتعلم منهم، ولكننا لا ندرس الحياة الروحية كما في معرض أو في متحف تاريخي. إنها واقع حي ونحن مدعوون إليها جميعاً. لكل إنسان بعد روحي. الله ليس منحازاً: إنه يدعو كل واحد إلى حيز الوجود بمحبة شخصية، ويمنح كل إنسان إمكانية مشاركة حياته الخاصة. قال الرسول بطرس مستخدماً مصطلحات زمانه أننا مدعوون إلى أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية “[2 بطرس 1: 4]. وهذه هي القداسة: “كونوا قديسين لأني أنا قدوس، وأنا أوصي بأن يكون عندكم كل ما لي، من دون تحفظ“. هذه هي دعوة الله لنا جميعاً، أياً كان مكاننا في المجتمع، أو رتبتنا في الكنيسة : علمانيين أو كهنة. يكتب القديس سلوان: “كل شخص في هذا العالم لديه مهمة للقيام بها، سواء كان ملكاً أو بطريركاً، طباخاً، حداداً أو معلماً، ولكن الرب الذي تمتد محبته إلى كل واحد منا سيعطي أكبر مكافأة لمَن محبته لله هي الأكبر“. ومرة أخرى:” لا يمكن لأي شخص أن يكون إمبراطوراً أو أميراً، ولا يمكن لأي شخص أن يكون بطريركاً أو رئيس دير، أو زعيماً. ولكن في كل مناحي الحياة نستطيع أن نحب الله ونكون مرضين له، وهذا فقط هو المهم”.
الحياة الروحية هي الحياة التي تأخذ بعين الاعتبار البعد الروحي للإنسان. ليس العمل على علاقتنا مع الله هوايةً لفئة معينة من الأشخاص، كما يقول البعض “هو أو هي من النوع المتديّن“. هذه العلاقة ليست خياراً إضافياً. إنها ما يجعل حياتنا إنسانية حقاً. عندما يستبعد علم الأحياء وعلم النفس المساهمة الإلهية في تكوين الإنسان إنما يعطيان صورة غير كاملة. الرجل الدهري هو مجرد حيوان متفوق، وفعلياً دون البشر. من دون جهد روحي لا ننمي روحنا. لا يمكن طمسها، ولكن يمكن خنقها وضمرها، تجاهلها أو إنكارها. لا نكون ملء ذواتنا ولا أشخاص مكتملين إلا إذا كنا نعيش حياة روحية. تشمل الحياة الروحية الجوانب المادية والنفسية فينا. ما أفكّر به وأعمله على كل مستوى من مستويات وجودي يؤثر على نفسي. وعندما تلمس نعمةُ الله روحي وتفكيري وشعوري وجسدي أيضاً تتبارك جميعها.
كثيرون من الناس تخلّوا عن المسيحية وخاصة في الدول الغربية. المؤلف الإنجليزي تشيسترتونقال بحكمة أنه عند تخلّي الناس عن الاعتقاد بالحقيقة، لا ينتقلون إلى الاعتقاد بلا شيء بل إلى الاعتقاد بأي شيء. وهكذا قد يبقى الاعتقاد بالله عندما يتمّ التخلي عن المسيح، لهذا يمكن أن يجد اﻹنسان في كل بلد من البلدان جميع أنواع الروحانيات. هذا ليس مفاجئاً، لأنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان“، والجوع الروحي موجود حتى حيثتختلط الأفكار حول الكائن المطلق. إلى هذا، تتقاسم الكثير من الطرق الروحية المختلفة بصفات مشتركة. الفروقات الجذرية بين الأديان لا تظهر دوماً في بداية الطريق: فقط عندما يتقدم اﻹنسان تصير الاختلافات واضحة. بعض معاصرينا يعلّمون أنّه بقدر ما تتقدّم في أي من اﻷديان، تتقارب الطرقات، بينما العكس هو الصحيح. فعلى الساعين أن يسعوا إلى الحق، ويجدوا الطريق القائم على الدين الصحيح والرؤية الصحيحة لله كما كشف ذاته لنا هو نفسه. من ثمّ يؤكّد لنا حسُّنا الداخلي أن بالفعل يسوع المسيح هو الطريق والحق والحياة. يمكن بلوغ ملء الحياة في الله فقط بالإله–اﻹنسان أي بالواحد الذي يشترك معنا بالطبيعة البشرية فيما يحتفظ بالطبيعة اﻹلهية كواحد من الثالوث القدوس. تقدّم لنا الكنيسة اﻷرثوذكسية نموذجاً حقيقياً: يمكننا أن نرى ونسمع ونلمس ونتذوّق الكائن المطلَق. يمكننا أن نختبر عطر كيان الله الفعلي. هكذا يمكننا أن نمضي إلى نهاية طريق الكنيسة بثقة. ما من طريق آخر، مهما سمت ممارسته وأخلاقياته وإيحاءاته، يمكن أن يوصل بسلام إلى النهاية. مع أنه ما من أحد معدوم بالكليّة من النعمة، فإن ملء القداسة يتطلّب العقيدة المستقيمة. إن تعليمنا لا يمكن التفوق عليه، وهو ليس عتيقاً من خارج الزمن. لقد أثمر في أجيال كثيرة وظروف عديدة وحضارات متعددة. اﻷرثوذكسية هي للجميع. يمكننا أن نفهم سبب قول ترتليان بأن “كل نفس هي بالفطرة مسيحية“.
إذاً، الحياة الروحية يمكن تحديدها بأنها الحياة في المسيح. فلنتداول بهذا للحظة. هذه العبارة استعملها القديس نيكولا كاباسيلاس كعنوان لكتابه حول اﻷسرار. وكصدى له، أعطى القديس يوحنا كرونشتادت، صانع العجائب العظيم الذي كان كاهناً متزوجاً في روسيا ورقد سنة 1905، عنواناً مماثلاً إلى “يوميات روحية” عندما طُلب منه نشرها. أحد الكتاب المعاصرين عنون أحد كتبه التي يشارك فيه رؤاه الروحية “حياته حياتي” (His Life is Mine) أي حياة المسيح حياتي. أن يكون اﻹنسان في المسيح يعني أن يكون مدموجاً في جسده الحقيقي وممسوحاً بروحه، كلمة المسيح تعني الممسوح، ومُتَخَذاً ابناً لأبيه السماوي. ليس اﻹيمان المسيحي مجرد قول “نعم” لدستور اﻹيمان. إنه لبس المسيح (غلاطية 27:3). كيف؟ بالمعمودية التي بالتحديد يسبقها اعتراف الإيمان. نحن بسهولة نأخذ هذه الهبة العظيمة على أنها مفروغ منها، لكن الذين يتحوّلون من جراء التبشير أو بعد بلوغهم سن الرشد يمكنهم أن يخبرونا عن خبرتهم التي هي عبور من الظلمة إلى النور ومن الموت إلى الحياة. نحن ننسى أحياناً أن الكاهن يقول لنا في المعمودية: “لقد تطهرت، لقد تقدّست، لقد تبررت باسم الرب يسوع المسيح وبروح إلهنا“. هذه الكلمات الرائعة، المستعارة من رسالة الرسول بولس إلى الكورنثيين، يمكن أن تظهر كمجرد عبارة طقوسية إذا أهملنا تفعيل عطية النعمة اﻹلهية في حياتنا. إن بذار الحياة الروحية قد زُرِع فينا. نحن “متقدسون بالمسيح يسوع، ومدعوون إلى أن نكون قديسين” (1كورنثوس 2:1). هذه هي مهمتنا.
إذا كنا أكيدين أننا “وجدنا اﻹيمان الحقيقي” فليس لدينا ما نخشاه من كثرة الطرق الروحية حولنا، حتى ولو بدا اﻷمر مشوِّشاً. “لأَنَّ اللهَ لَمْ يُعْطِنَا رُوحَ الْفَشَلِ، بَلْ رُوحَ الْقُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالنُّصْحِ” (2تيموثاوس 7:1).إذا بقينا مخلصين نُغني باستمرار خبرتنا ومعرفتنا بحياة الكنيسة وتعليمها، ونكون أكثر ملاءمة لمساعدة معاصرينا. السؤال اﻷساسي هو دوماً: ماذا تعتقد بالمسيح؟ ذكّر الرسول يوحنا مراسليه بأن “بِهذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ” (1يوحنا، 2:4).
بالطبع، إعلاننا لما نعتقد بالسيد سوف يكون متواضعاً، من دون صلف وثقة بالنفس، مملؤاً محبة وامتنان. يقول القديس سلوان “الله محبة وبالتالي يجب أن يكون تعليم كلمته نابعاً دائماً من المحبة. عندها يستفيد المعلّم والمستمع معاً. ولكن إن كنت لا تفعل إلا اﻹدانة فإن نفس الشعب لن تهتم لك، ولن ينتج أي خير عن ذلك“. بالطبع، ليس الجميع مدعوين إلى أن يكونوا مبشرين متفرغين، لكن كل مَن يشهد للمسيح يكون متحدثاً عن الذي أوجد اﻹمكانية لكلّ البشر ليكونوا أشخاصاً حقيقيين. الحياة الروحية هي، بحسب العقيدة اﻷرثوذكسية، تعاون بين إرادتنا الحرّة وإرادة الله. إن أفضل سفراء المسيح هم أولئك الذين هيّأتهم حياتهم الروحية فيه ليتّحدثوا صلاتياً، حتى يطلب اﻵخرون منهم أن يشرحوا إيمانهم. “قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ، بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ” (1بطرس 15:3).
إذا التزمنا بالطريق التي عليها فقط يمكننا اكتساب ما يسمّيه الرسول بولس “فكر المسيح“، لا يعني أن شخصيتنا تضيع. إن إلهنا هو واحد في الطبيعة وثلاثة في اﻷقنوم. يعلمنا آباؤنا أننا لا نقسّم الطبيعة ولا نخلط بين اﻷقانيم. وهذا يقوم في أن تكون البشرية واحدة كما أن الله واحد. إذا سلك العالم في المسيح، فإن وصاياه تكون الهدف اﻷول لكل شخص: محبة الله ومحبة اﻵخر. وعليه فإن أحداً لا يذوب بل يتثبّت ويكتمل في علاقات المحبة.
من المفيد كثيراً أن نقرأ عن اﻷناس القديسين، الذين أعلنوا قديسين أو غيرهم، كمثل شيوخ القرن العشرين يعقوب (تساليكيس)، برفيريوس (القديس)، وغيرهم كثيرون. أذكر أولئك من القرن اﻷخير ﻷنه تقريباً “اليوم“، وهو قرن اﻵﻻم العظيمة. في رأسي رجال ونساء قديسون تعرّفت إليهم ﻷن القديسين لا يلبسون ملصقاً إعلاناً عن ذاتهم: “أنظروا إليّ أنا قديس“. إن طريق المسيح هي التواضع، والبعض شُرِّفوا كقديسين فيما هم على اﻷرض، والبعض اﻵخر لا. إن كنيستنا، بحكمة، لا تمنح الاعتراف الرسمي بأحد حتى يعبر بوابات الموت، وحتى عندها ليس بسرعة. لذا من المبكر جداً الكلام عن قديسين في القرن الحادي والعشرين. ولكن إن نظرنا فقط إلى القرن العشرين، فهناك تنوع من الشخصيات والمستويات العلمية ودرجات التقوى في الشباب والخلفيات الدينية وغيرها. من ثم هناك العديد من السبل في الحياة التي أدّت إلى القداسة. لقد أعطى جبل أثوس للعالم العديد من القديسين العظماء كالقديس سلوان الذي رقد سنة 1938، ولكن ليس كل قديسي القرن العشرين كانوا في اﻷديار. هناك الملايين من الشهداء والمعترفين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، من الاتحاد السوفياتي. هناك كاهن رعية القديس نيكولاس بلاناس. هناك القديس نكتاريوس حيث أن معجزاته الباهرة تظهر أن الله هو إله حي يعمل إلى اﻵن. هناك الكثيرون ممن تحمّلوا العذابات بإيمان، حتّى ولو لم يشتهروا، فهم اﻵن يحصّلون مكافأتهم ويصلون من أجل العالم. كل هؤلاء القديسين شاركونا في نفس الخدم وقبلوا دستور اﻹيمان نفسه. لكنهم مثل حديقة ذات أنواع مختلفة من اﻷزهار. إنهم يقدّمون لنا البرهان على أن الله معنا ومُتاح لنا جميعاً هنا واﻵن.
يعرف الذين تلقّوا تدريباً علمياً أن البراهين تأتي بالدرجة اﻷولى عبر التجربة. إن أفضل الطرق لدينا للإجابة على السؤال الذي طرحه علينا صاحب الغبطة اليوم (هل من قداسة وقديسين اليوم؟) هي في أن نختبر بأنفسنا “إن عشتم بحسب الجسد تموتون، ولكن إن أمتم بالروح أعمال الجسد تحيون“. الجسد وأعمال الجسد هنا هي القوى الخاطئة كالكراهية والكبرياء والشهوة وغيرها من اﻷهواء التي تسبب التحلل وتغلق الباب دون روح الله. الحياة الروحية تتضمن بعض “اﻹماتات“. من اﻷمثال هو اﻷصوام التي نلتزم بها معاً في فترات محددة من السنة الكنسية، وذلك بالضبط لكي تساعدنا على الصلاة وتطهير قلوبنا من اﻷهواء الخاطئة. يتابع الرسول بولس قائلاً: “لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ.إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ:«يَا أَبَا الآبُ». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ.” (رومية 14:8-16). عندما “رُوحَ الْمَجْدِ وَاللهِ يَحِلُّ” عَلَيْنا (1بطرس 14:4)، يصير واضحاً أن هناك حياة روحية وقداسة في أيامنا.