أثارت مقالة المطران جورج خضر في جريدة النهار يوم السبت ١٩ آذار ٢٠١٦ بعنوان “استقامة الرأي” كمّاً كبيراً من ردود الفعل. فالبعض استنكر واﻵخر استغرب. هذا تألّم وذاك تفاجأ. البعض غضب وغيرهم خاب. الذين قرؤوا المقالة لاهوتياً وجدوا فيها قلّة دقّة. والذين قرؤوها رعائياً وجدوا فيها ضرراً. والذين قرؤوها من منظار تاريخي وجدوا فيها العديد من المغالطات. طبعاً بمقابل كلّ هؤﻻء مَن اعتبر المقالة قمّة في المحبة ﻷن لا تمييز طائفياً فيها ولا إدانة، وآخرون وجدوا راحة في أن يحصر المطرانُ اﻹيمانَ في “صَلْب السيد، وقيامتِه، والثالوث” وأن “غير ذلك تفاصيل”.
إلى هذا، بدأت أرقام التعليقات على شبكات التواصل الاجتماعي بالارتفاع، خاصةً مع تزايد عدد التعليقات من خارج أنطاكية، بغض النظر عن محتواها.
الواقع أن المطران جورج لم يقل في هذه المقالة شيئاً جديداً لم يقله من قبل، إنّما قدّم بالجملة ما قد سبق له تقديمه بالمفرّق. وأكثر من ذلك، أنه قال ما يمارسه كثيرون. قد يكون التقدم بالعمر جعله أكثر مباشرة وتبسيطاً. فهو يقول “بتبسيط الكلام ليس من إختلاف جوهري في العقيدة بين المسيحيّين“. إذاً هذا القول تبسيط، لكنّه يعني أن كل ما عاشه المسيحيون منذ أول انشقاق حتّى اليوم، أو أقلّه منذ 1054 م. إلى اليوم، لم يكن ﻷسباب جوهرية أو عقائدية. إذاً، لماذا كان؟ أهو ﻷسباب سياسية؟ أهو خلاف على النفوذ كما يعتقد أغلب العامّة؟ هنا تأتي المغالطة التاريخية بقول المطران :”بصورة عامّة وأكيدة، المسيحيّون إيمانهم واحد أو كان واحدًا قبل أن تُعلن الكنيسة الكاثوليكية أوّلية البابا وعصمته عقيدة السنة الـ١٨٧٠“. إذا سأل أحدنا غوغل عن تاريخ انشقاق الكثلكة عن الكنيسة يكون الجواب 1054. وإذا سأل العلماء والمؤرخين يكون قبل ذلك، أي تاريخ بداية الجدل حول انبثاق الروح القدس من اﻵب أو من اﻵب والابن معاً. عندها بدأ التباعد. لكن المطران يجزم أن الانبثاق تفصيل لا أهمية له. وهنا من حق أي كان أن يتساءل: كيف يوصَف الوضع بين 1054 و1870، ألم يكن انشقاقاً؟
قول المطران “نحن والكاثوليك والإنجيليّين، نقول في المسيح قولاً واحدًا” قول غريب. مريم هي والدة اﻹله أي المسيح. فإذا كان مسيح الكثلكة وُلِد من عذراء حُبل بها بلا دنس، ومنه انبثق الروح القدس، بينما مسيح اﻷرثوذكسية وُلِد من عذراء أتت من زرع بشري، وهو أرسل الروح القدس الذي من اﻵب ينبثق، فكيف يكون قولاهما واحداً؟ كيف يقول المطران “على صعيد الكلام في المسيح، كلّنا مستقيمو الرأي“؟ هذا تعميم منافٍ للمنطق.
طالما أن كنيسة أنطاكية على ما هي عليه، ليس مجدياً الخوض في التقييم العلمي لهذه المقالة أو غيرها. هذا طبعاً إذا استطعنا أن نضع شخصنة اﻷمور جانباً. فأن تقول بأنّ المطران جورج خضر مخطئ هو قول لدى الكثيرين قد يساوي الهرطقة.
هنا، يستحضرنا ما كتبه الأرشمندريت توما بيطار في إحدى أوراقه الديرية: “عندما نقرأ في عظة ﻷحد الرؤساء (النهار، 29 كانون اﻷول، 2005) كلاماً عن الثالوث القدوس يقول فيه (والكلام للرئيس المذكور): <الابن مولود من الآب قبل كل الدهور وهو منه، ليس هو شخص آخر ولا هو شخص ثانٍ> نأسف ونعجب! أولاً ﻷنّ القول هرطقة سابليانية واضحة. ثانياً ﻷنّه لا تصحيح من الجهات الرسمية المسؤولة ورَدّ. ثالثاً ﻷنّ أحداً لا يبدو مُطالِباً بتصحيح علني لما قيل وﻻ ردّ عليه. وهذا يجعلنا نتساءل: أﻷنّ القول صدر عن رئيس لم يشأ أحد أن يعترض أم ﻷنّ الناس لا يقرأون وإن قرأوا لا يفهمون وإن فهموا لا يبالون؟! خشيتنا أنّ العقيدة باتت، في الوجدان، أدنى إلى اﻵراء ووجهات النظر. فإذا كانت العقيدة تؤخَذ بخفة، على هذا النحو، فأي حوار عقدي يعوّل عليه، بعد، في اللقاءات المسكونية؟!” [اﻷرشمندريت توما بيطار. الكنيسة والكنائس في فكر اﻷب جورج فلوروفسكي. الحركة المسكونية: من أين؟ وإلى أين؟ في “اﻷرثوذكسية بين الحركة المسكونية وحوار الديانات (ثلاث مقالات)”. أوراق ديرية – 12. دير القديس سلوان اﻷثوسي. دوما. 2005. ص. 16.]
كلام اﻷرشمندريت توما ينطبق تماماً على قضية مقالة “استقامة الرأي”: الكاتب مطران، أي رئيس. اﻷرشمندريت أسف وتعجّب في 2005، والأمر نفسه اليوم، فاﻵسفون والمتعجّبون كثر.
في 2005، القول هرطقة سابليانية واضحة، واليوم الكلام لا حاجة لبرهان عدم موافقته للوجدان اﻷرثوذكسي والدليل ردود الفعل الكثيرة. في 2005، لا تصحيح من الجهات الرسمية المسؤولة ورَدّ، واليوم أيضاً، حتّى يصحّ التساؤل حول وجود جهات رسمية مسؤولة وما انشغالها: أهي المجمع، لا سوابق له بالردّ، أهي معهد القديس يوحنا الدمشقي، فالماضي يقول أنه صمت حين كان معنياً مباشرة (أبو غسان، الخوري بولس طرزي، مسرحية فادي تابت)، أهو اﻷديار، فقد أحجموا عن ذلك مجتمعين فكيف اليوم متفرقين؟
في 2005، لم يبدُ أحد مُطالِباً بتصحيح علني لما قيل وﻻ ردّ عليه، واليوم أيضاً، هناك الكثير من التعليقات، لكن أياً منها لا يطلب التصحيح أو الردّ، حتّى يجوز التساؤل عمّا إذا كان الدم ما يزال يجري في عروق هذه الكنيسة أم أنه تجمّد.
في 2005، تساءل اﻷرشمندريت: “أﻷنّ القول صدر عن رئيس لم يشأ أحد أن يعترض أم ﻷنّ الناس لا يقرأون وإن قرأوا لا يفهمون وإن فهموا لا يبالون؟!” هنا تكمن المشكلة اليوم، وعلى اﻷرجح أن اللامبالاة هي السائدة بين الناس، وهذه اللامبالاة هي نتيجة حتمية للإحباط الذي أصابهم. فأمام كثافة المشاركة مع غير اﻷرثوذكسيين في اﻷكاليل والجنازات وحتّى القداديس، على كل المستويات من الرؤساء إلى الشعب، وأمام ما يتمّ تناقله من صور لزياحات مشتركة في الشعانين أو في الفصح أو في غيرها، وأمام صور الجوقات “تؤدّي” في معابد غير اﻷرثوذكس أو في المسارح، وأمام صور اﻷوركسترات في كنائسنا، مَن هو اﻹنسان الذي يُطلَب منه الحفاظ على رباطة جأشه وثباته والصمود أمام الخيبة واﻹحباط والشعور بالهزالة.
في 2005، وصف اﻷرشمندريت الوضع بأن “العقيدة باتت، في الوجدان، أدنى إلى اﻵراء ووجهات النظر”، ماذا عن اليوم؟ أين العقيدة لا بل أين الممارسة؟
أيضاً في 2005، تساءل اﻷرشمندريت:”فإذا كانت العقيدة تؤخَذ بخفة، على هذا النحو، فأي حوار عقدي يعوّل عليه، بعد، في اللقاءات المسكونية؟!” اليوم، العقيدة والممارسة والتعليم كلها مأخوذة بخفة، علامَ يُعوَّل؟
كنيسة أنطاكية اليوم كومة حطب. اليبس منتشر في كل المفاصل والأغصان. تُخالَف العقيدة وما مَن يرفع الصوت. تُخالَف أصول الليتورجيا وما مَن يسأل. تُخالَف القوانين وما مَن يُحاسب. الزنا لا يُحاكَم، الشذوذ لا يُحاكَم، السرقة لا تُحاكَم، حتّى الخروج على الرئاسات ممكن، وما مَن يهتمّ. استقامة الرأي مُفتَقَدَة، وهذا ينتج عنه افتقاد استقامة الممارسة. الرجاء الوحيد هو أن الهواء والنور قادران على التسلل ما بين قطع الحطب. فلا بدّ وأن يأتي يمين الربّ عليها يوماً ما، فإمّا يحييها وإلا يجمعها ويلقيها في النار.
أخيراً، سؤال إلى اﻹكليروس الأنطاكيين الذين استفزهم كلام المطران جورج، لا من باب المزايدة ولا من باب الاستفزاز، بل من باب دقّ الناقوس: ألا تناولون غير الأرثوذكس؟ ألا تشتركون في أعراس في كنائس غير أرثوذكسية؟ ألا تقبلون بعرابين غير أرثوذكس؟ إذا كان الجواب “نعم” معناه أن في الممارسة التواء لا استقامة. استقامة الممارسة تنبثق من استقامة الرأي وتحضنها وتحصّنها. عندما تكون الممارسة مستقيمة يصير أكثر سهولة استيعاب الالتواء في الرأي وإصلاحه: “إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا“(غلاطية 1:6). وهنا تكمن الصعوبة في كنيسة أنطاكية.