بعدا المحبة وعبادة الأنا
الأب بانايوتيس روديس
إِنْ قَالَ أَحَدٌ:«إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟ وَلَنَا هذِهِ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ اللهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضًا” (1يوحنا 20:4-21). “بِهذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا نُحِبُّ أَوْلاَدَ اللهِ: إِذَا أَحْبَبْنَا اللهَ وَحَفِظْنَا وَصَايَاهُ” (1 يوحنا 2:5).
بهذه الكلمات، يعطينا الرسول والإنجيلي يوحنا اللاهوتي بعدَي المحبة، ويحثّنا على أن نتميّز بهذين الشكلين من أشكال المحبة: محبة الله ومحبة القريب.
محبة الله هي تعبير عن شكر الخليقة لخالقها، ومحبة القريب هي ظهور عملي لمحبة الله. أن يمتلك الإنسان واحداً فقط من هذين النوعين من المحبة هو وضع زائف، منافق، ناقص وخاطئ. بعدا المحبة هذان مترابطان: محبتنا لله تعتمد على محبتنا للناس، ومحبتنا للبشر تعتمد على محبتنا لله. لا يمكن للمرء أن يستقيم من دون الآخر. الناس مدعوون لأن يكونوا “على مثال الله“، وذلك يتحقق عندما نقوم بتنمية كلٍ من بعدي المحبة: نحو الله ونحو قريبنا.
سبب هذا أنه وفقاً لتعاليم إيماننا، الحقيقة ذات شقين: الله موجود والعالم المخلوق موجود، ولهذا الأخير طبيعة مختلفة عن الله، على الرغم من أنه خُلِق من محبة الله. إن الانحياز إلى بعد واحد من المحبة يؤدّي إلى انقسامات أخرى ونظريات حول الكون وحول الحياة والمفاهيم التي تنكر حقيقة العالم، أو ترفض الله، أو تماثل الله بالكون. وبهذه الطريقة يغلق الله على نفسه ولا يتواصل مع الناس، أو ينكر الناس الله وينغلقون ضمن حلقة مفرغة من الولادة والموت، بلا أمل في لقاء الله، الذي هو الخلاص.
في العادة، منذ السقوط، الناس يختارون أنماط الحياة التي تناسبهم كأفراد، فيفضّلون إما محبة الله أو محبة الناس، ولكن ليس اﻹثنين أبداً. لأن البعدين معاً يعنيان الصليب. والناس اليوم ينكرون الصليب أكثر وأكثر. إنهم يفضلون تحميله للآخرين. إن اختيار إحدى المحبتين دون اﻷخرى هو عبادة أصنام. السمة الرئيسية لعبادة الأصنام هي إرضاء التطلعات المهووسة باﻷنا.
ونحن لا يمكن أن نحب الله إلا أذا كنّا نرى وجهه في إخوتنا وأخواتنا. “اذا رأيت أخاك، تكون قد رأيت الرب إلهك” يقول أحد آباء اليارونديكون. والمرء لا يستطيع أن يحب أخاه، إلا إذا رأى فيه صورة الله. خلاف ذلك، “الآخر” يصبح الجحيم لدينا. قال سارتر “الجحيم هو الآخرون“. أو بحسب المثل اللاتيني القديم المتشائم “الإنسان ذئب للإنسان”.
الناس الذين ينكرون الله أو غير المهتمين به يقولون: “أنا أحب الناس، وهذا أمر شخصي، ويكفي.” دوستويفسكي، الذي كان رجلاً عظيماً ومسيحياً عظيماً، مسيحياً مصلوباً، اختبر المحبة إلى حد كبير، وهو يؤكد في أعماله كيف يجب أن تكون المحبة مزدوجة في الواقع، وأنها تقوم على بعدين: محبة الله ومحبة القريب. وهو يشهد كيف أن المحبة المحصورة بالناس سوف تلتوي وتُستَنفَد في نهاية المطاف، وربما حتّى تتغيّر إلى الكراهية، إذا ما بقيت على هذا المنوال حتى النهاية.
إن محبة قريبنا فقط، مهما كانت صادقة، هي دائما غير مكتملة، وهي تسعى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى التقدير والمكافأة والمعاملة بالمثل. هذه تكشف عن ثغرات نفسية في الشخص المحبّ، وكذلك عدم قدرته على فتح هذه المحبة على بعد الأبدية. المحبة أبدية، خالدة، وتستحق الخلود. المفكر الماركسي هربرت ماركوز، في محاولته المخلِصة لشرح وإعطاء بعض المعنى للحياة ينتهي في المحبة. ومع ذلك، لا تزال هناك مشكلة كبيرة: الموت الذي يقطع المحبة. وهو يعترف صراحةً بأن المحبة تستحق الخلود، لأننا نريد أنّ ما نخلق يدوم إلى الأبد. والموت ليس أكثر من مأساة انقطاع العلاقات التي يتم إنشاؤها بواسطة المحبة.
بالتالي رهيبة هي العلاقات الأبدية. وإذا كانت المحبة خالدة، فلأنها تأتي من الله، الذي هو المحبة.
يذكّرنا الرسول بولس بأن المحبة “لا تطلب ما لذاتها.” إنها تقدِّم فقط. إنها تعطي ولا تنضب لأنها تؤمن وتعيش وتختبر قوة غير المتناهي، وما من أحد قادر على أن يغيّرها أو يعطّلها. يقول الذهبي الفم: “إن طبيعة المحبة هي من النوع الذي لا يعرف الاكتفاء، بل، فيما لا تزال تنعَم بالأشخاص الذين تحبهم، يتزايد لهبها أكثر“.
المحبة هي القوة الوحيدة التي يمكن أن تواجه الموت فيما تحترم حرية الناس. وهم يواجهون دمار الموت من خلال تقديم أنفسهم كضحية. أنها تحترم الحرية لأنه لا ترغم، وﻻ تستعبد، وليس لديها متطلبات، بل هي تُقدّم من دون أنانية.
العمل الذي يوجّه هذه المحبة هو تضحية اﻹله–اﻹنسان على الصليب، الذي كإنسان اختبر كل نتائج سقوط الإنسان، وبمحبته التي قُدِّمَت كضحية، ينزل إلى ذروة المأساة الإنسانية، أي الموت ، لكي يقود البشرية وكل الخليقة إلى ملكوت الله.
إن محبة هذا اﻹله–اﻹنسان تتجاوز الزمان والمكان، وتزيل كل عقبة. “هذه هي قوة المحبة“، يقول الذهبي الفم الإلهي، “لأنها لا تبني وتوحّد وتربط فقط أولئك الذين هم بالقرب منّا، ويمكننا أن نراهم، ولكن أيضا أولئك الذين انتقلوا عنا بعيداً. وليس طول الزمان ولا مسافة الطرقات أو أي شيء مماثل يمكن أن يقطع أو يفصل هذا الرباط النفسي“.
المحبة تبدأ باحترام وصايا الله. حفظ وصايا الله يعني التخلي عن أنانيتنا ومعالجة أهوائنا. وإذا شُفي الناس من أهوائهم في المسيح، فهم المنتصرون على عالم الفساد والموت وفي وجوههم يتمّ الكشف عن الحقيقة وعن عظمة إيمانهم، وهم يعترفون مع الرسول ويوحنا الإنجيلي: “وهذا هو النصر الذي يغلب العالم: إيماننا “.