“هذه الأشياء هزّت عقول الشعب العادي لأشهُر كثيرة، في حين كانت المخاوف الأولى ما تزال على حالها والطاعون لم يكن قد تراجع. لكن علي ألا أنسى أن الغالبية الساحقة من السكان تصرفوا بطريقة أخرى. الدولة شجعت تقواهم، وحددت الصلوات العامّة وأيام الصوم والانكسار، والاعتراف العلني بالخطيئة وتوسّل رحمة الله لردّ الحكم الرهيب المسلّط على رؤوسهم؛ والحماس الذي به تبنّى الناس المناسبة على اختلاف معتقداتهم؛ كيف زحفوا جماعات إلى الكنائس والاجتماعات وضاقت بهم حتّى الكنائس الكبيرة التي وصلوا إلى خارج أبوابها. كانت الصلوات تُقام يومياً صباحاً ومساءاً في الكثير من الكنائس، وفي النهارات كانت الصلوات الشخصية؛ وكان الناس يحضرونها كلها بتقوى غير معهودة. الكثير من العائلات حفظت الصوم العائلي… بكلمة، هؤلاء الناس الذين كانوا جديين ومتدينين التزموا بطريقة مسيحية فعلاً عمل التوبة والاتضاع، كما ينبغي أن يكون الشعب المسيحي”.
الفقرة أعلاه ليست وصفاً تاريخياً لإحدى الكوارث الرهيبة التي كانت تعصف بانتظام بالقسطنطينية الأرثوذكسية في الحقبة البيزنطية؛ ولا هي من سجل أحداث روسي من العصور الوسطى حول كارثة أصابت موسكو أو إحدى المدن الروسية القديمة في تلك الفترة. على العكس، هذا الاقتباس مأخوذ من قصة “يوميات سنة الطاعون” لدانيال ديفو، كاتب روبنسون كروزو. تاريخ كتابة الفقرة أعلاه هو سنة 1722 عن الانتشار الواسع للطاعون الدبلي الي جرى سنة 1665. من المهم الإشارة هنا إلى أن ديفو لم يكن أرثوذكسياً ولا كاثوليكياً، بل كان بروتستانتياً معارضاً؛ وفي الوقت نفسه، الغالبية الساحقة من الإنكليز الذين عانوا من هذا الطاعون لم يكونوا أرثوذكسيين ولا كاثوليكيين بل أنكليكانيين. بغض النظر عن كل آثار الإصلاح البروتستانتي في أوروبا الغربية ما زال ظاهراً بوضوح وجود التقوى، الصوم والصلاة والتوبة، التي تشبه ما عند الأرثوذكس اليوم.
ليس الهدف من عرض هذا المقطع تقديم درس في تاريخ الحضارة الغربية، بالرغم من وجوده، بل بالأحرى برهان وجود تقوى تتضمن الصلاة والصوم في الأوساط البروتستانتية إلى عصور قريبة. مع أن هذا يشير في الوقت عينه إلى أن هذه التقوى تناقصت حتى أنها، كتقوى ناشطة، اندثرت مؤخراً بتأثير من العلمانية. فعلى مستوى المجتمع، يمكن القول أن هذه التقوى انطفأت وهذا ما يمكن أن نعاينه سواء بالزيارة أو من التلفزيون أو الإنترنت أو الشبكات الاجتماعية. وقد نبدو سذّجاً إذا افترضنا أن هذا التأثير الاجتماعي لم يبلغ إلينا بشكل عميق، حتى لو افترضنا أننا نسلك في أوساط أرثوذكسية صافية. من السهل أن نشعر بأننا سمكة صغيرة تسبح بعكس التيار في المحيط الكبير (الواقع أن هذا ينطبق على الملتزمين مسيحياً في كل مكان: المترجم)
مع دخول الصوم، أحد أهم الأسئلة هو: كيف نصوم فيما الأمر يبدو مستحيلاً في ظروف حياة المؤمن الحالية: إذا كان تلميذاً في المدرسة، أو موظفاً، أو عضواً في عائلة غير ملتزمة، أو يعاني من السكّري أو من مرض مزمن؟ كيف يمكن الالتزام بقوانين الصوم المتعلّقة بالطعام فيما نسلك حياتنا اليومية؟
النقطة الأولى التي ينبغي حفظها في البال هي أن الصوم يبقى ملزِماً ما لم يكن ذلك مستحيلاً لأسباب صحية. نسمع اليوم كثيرين يتكلّمون عن أنهم بسبب ظروفهم، كالمدرسة والوظيفة، لا يصومون عن بعض المآكل بل أنّ الصوم “الروحي” عن بعض الأهواء كالغضب والشهوة وغيرها كافٍ. بهذا ننسى أنه بالنسبة للآباء الذين نتبعهم نحن في صومنا، الصوم ومحاربة الأهواء يسيران يداً بيد. إذا أردنا فعلاً أن نقضي على أهوائنا علينا أن نمتنع جسدياً عن بعض المآكل. هذه طريقة روحية صحيحة جرى ممارستها واختبارها لألفي سنة في الكنيسة. إنّ تخطي الأهواء والصلاة العميقة هي من ثمارها الأكيدة. إلى هذا، الصوم هو وسيلة بها نقدّم موسماً مقدساً للمسيح تهيئاً لعيد الفصح العظيم الآتي.
ثانياً، علينا أن نحدد مع كاهننا وأبينا الروحي كيف نمارس هذا الصوم. في الكثير من الظروف، كالمدرسة والوظيفة، لا يمكننا أن نتحكّم كلياً بما نأكل. مع هذا، يمكننا بمعية الأب الروحي أن نطبّق المبدأ الروحي: كل ما هو باستطاعتنا التخلي عنه هو تقدمة للرب. وهكذا مثلاً، قد لا يجد التلميذ شيئاً يأكله في كافتيريا المدرسة إذا التزم بشروط الصوم بدقّة، وقد لا يكون هذا ممكناً لأكثر من أربعين يوماً، لكن لا بد أنه ممكن الامتناع عن اللحم وأغلب البياض والحلويات الفاخرة والاكتفاء بأشياء بسيطة. هذا مع الحفاظ على إمكانية حمل الطعام الصيامي من البيت.
الأصعب هو التحكّم بالأكل في البيت إذا كان المؤمن هو الوحيد الصائم. لا ينبغي إلزام الآخرين على التغيير أو إدانتهم، إذ مع القليل من التسامح من العائلة (حيث هو موجود وحيث الصوم لا يعرّض الصائم إلى شيء من الاضطهاد أو السخرية: المترجم) قد يبقى الصوم ممكناً بالامتناع عن اللحم أو بعض الأشياء الأخرى. المهم أن لا يتحوّل الصوم ضمن العائلة إلى مجال للتباهي وجذب الانتباه أو لتسعير خلافات وجدالات لا حاجة لها ولا ترضي الله. تلافي المواقف الدفاعية من جهة الصائم وقبول أن ما يقوم به الآخرون يختلف عن ما نقوم به نحن يبقي على مساحة للمؤمن ليصوم ضمن العائلة.
أخيراً، الأوضاع الصحية تؤثّر على القدرة على الصوم. بتوجيه الأب الروحي ينبغي الانتباه. علينا أن نقوم بالجهد الذي تتطلبه الفترة الصيامية وألا نبحث عن أعذار تبرر امتناعنا عن التضحية التي هي جزء أساسي من الصوم. في هذا، التوازن الدقيق والتمييز مطلوبان حتّى لا نصل إلى الطرف الآخر الذي هو استهتار أحمق. أفضل قانون هو سلوك الطريق المَلَكية: تلافي التطرف، الكسل وتبرير الذات من جهة، والحرفية وجلد الذات من جهة أخرى.
بالصوم اللائق والجهد الذي يتضمنه نهيء ذواتنا للقاء المسيح القائم. علينا أن نكون جديين في ذلك ونتعاطى مع قوانين الصوم التي وضعتها الكنيسة على أنها المثال. ينبغي الحفاظ على الاعتدال والتوازن بمشورة الأب الروحي ومن خلال الصلاة، لتحديد الطريقة المثلى للصيام. إذا قمنا بذلك، حتّى ولو لم تكن كلّ ظروفنا الخارجية بيدنا، نتمتّع بصوم نافع ونستحق أن نصافح المسيح في الفصح المنير.