للقدّيس إغناطيوس بريانتشانينوف*
نقلها إلى العربية راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطع، دده – الكورة
إنّنا نقترب، شيئًا فشيئًا، من الوقت الذي سيبدأ فيه ظهور عجائب مدهشة ومذهلة بقصد جرّ الناس البائسين إلى الهلاك، أولئك الذين يرون الأمور من منظار بشريّ، فيُجذَبون بتلك المظاهر العجائبيّة ويهلكون بها.
نعم، سيأتي المسيح الدجّال، ولكن كيف يجب أن نواجه حضوره؟
1) بالإيمان الحيّ الحارّ. يولد الإيمان الحيّ بالمسيح يسوع داخلنا كلّما تغذّت نفوسنا بكلمة الله، فالإيمان واسطة به نرى الله: “وبالإيمان ترك مصر (موسى)… لأنّه اصطبر كأنّه يعاين الذي لا يُرى” (عبرانيّين 11: 27). فعندما تنتعش نفوسنا بالإيمان الحيّ نستطيع، عندئذ، أن ندرك شيئًا من العقائد الإلهيّة البعيدة المنال عن أفهامنا، فلا تبقى مخفيّة تحت حجاب كثيف لا يمكن خرقه.
لا يحتاج الإيمان الحيّ، البتّة، إلى علامات تؤيّده، لأنّه هو عينه مليء بعجائب المسيح. والحقيقة إنّ المسيح، كلمة الله، الذي هو، بحدّ ذاته، المعجزة الكبرى التي كلّلت معجزاته كلّها. إنّ الرغبة التي تحدونا لرؤية العجائب ما هي إلاّ دليل على عدم إيماننا، ولذلك أُعطيت لنا العلامات لكي نتحوّل بواسطتها إلى الإيمان. ولذلك، أيضًا، علينا الالتصاق بالربّ بكلّ ما أوتينا من قوّة، والاتّحاد به من دون أدنى انقسام داخليّ، وعند ذلك لا تقوى علامات ضدّ المسيح أن تجذب انتباهنا إليها على الإطلاق. والأمر الأهمّ هو إبداء لامبالاتنا، إن لم نقل ازدراءنا، لهذه العلامات، تمامًا كما نفعل عندما يصادفنا عمل وقح مشين، أو عمل يضادّ وصايا الله، أو قول تجديف على القدسات، أو أيّ عمل أو قول آخر يسبب لنا الموت الروحيّ.
ودعونا نتذكّر في هذا المجال أقوال آبائنا النسّاك النابعة من خبرتهم الروحيّة العميقة بأنّ ظهور الشياطين لها تأثيرات قويّة، حتّى إنّ أقلّ اهتمام بها، أو عدم ضبط النفس أمامها، كفيل بإحداث ضرر كبير في النفس إذ تثيرها وتهيّجها وتوقع الإنسان في تجارب صعبة.
2) بالتواضع: التواضع فضيلة لا يمكن فصلها، ولا بأي حال من الأحوال، عن الحياة الروحيّة الأصيلة، فالقدّيس إسحق السوريّ يقول: “فقط من يملك فضيلة التواضع يمكن أن يدعى روحيًّا، وأمّا من هو بعيد عنها لا يمكن، أبدًا، أن يسمّى روحيًّا”. يشير الإيمان الحيّ إلى حضور الله في النفس، فمن يرى الله داخله، لا بدّ له أن يحسّ بتفاهة قيمته الشخصيّة وحقارة شأنه، فيشمله، عندئذ، توق شديد نحو الله وتطبيق وصاياه، وهكذا يبدأ مسيرته الروحيّة بالتواضع. فالمتواضع لا يتجرّأ، البتّة، على الاهتمام أو الانشغال بأمر مهما بدا بسيطًا خارج إرادة الله. لهذا، فعلامات ضدّ المسيح تبقى غريبة عن المتواضع وبعيدة عنه كلّ البعد، فهو لا يقبل أن تكون له علاقة بها، بل هو يرفضها رفضًا قاطعًا.
3) بالسهر والصلاة: عندما نتأمّل ضعفنا وتفاهتنا، لا بدّ لذهننا، عندئذ، من أن يتّجه نحو الله، نحو عظمته، نحو قدرته الكلّيّة، نحو صلاحه اللاّمتناهي، فيشتعل فينا، حينئذ، الشوق العارم للصلاة إليه والتحدّث معه، ويتجمّع رجاؤنا كلّه في خيريّته. من هنا كانت الأهمّيّة بالغة بعدم الانشغال بأيّ أمر أثناء الصلاة، إذ لا شيء له أهمّيّته إزاءها، فصلّ، إذًا، بكلّ قلبك ونفسك وذهنك، واطلب من الله ليمنّ عليك بموهبة الصلاة المستمرّة.
لا شكّ أنّ أيّام ضدّ المسيح ستكون أيّام ضيق وشدّة لا سيّما للمؤمنين، الذين سيطلبون من الله المعونة والعضد والنعمة الإلهيّة. فقوّة الإنسان، مهما كان مؤمنًا بالله، تبقى غير كافية لتقاوم قوّة الشياطين والبشر المجتمعة عليه، الذين سيستخدمون ضدّه كلّ الوسائل والأساليب بقساوة لا تنثني ولا تلين لكونهم باتوا يشعرون بقرب نهايتهم: “فلذلك افرحي أيّتها السموات والساكنون فيها والويل للأرض والبحر فإنّ إبليس قد نزل إليكما وغضبه عظيم لعلمه بأنّ له زمانًا قصيرًا بعد” (رؤيا 12: 12). ولكنّ النعمة الإلهيّة ستظلّل مختاري الله، فتبقى تهديدات ضدّ المسيح كلّها عديمة النفع وغير فعّالة وبلا نتيجة ترجى، وحتّى عجائبه ستكون مزدراة مرذولة. وعندئذ، سوف يمدّ الربّ عبيده الأوفياء بقوّة لكي ينذروا بشجاعة ورجولة بأنّ يسوع المسيح هو مخلّص العالم. كما سيخبرون عن ماسيّا الكذّاب بأنّه سوف يأتي، ولكنّه سيجلب معه الهلاك، وسيقود تابعيه إلى المشنقة، كيهوذا آخر، أيّ إلى الموت، وأمّا المختارون فيشعرون وكأنّهم متربّعون على عرش ملوكي، يتغّذون بغذاء سماويّ عرسيّ. إنّ محبّة الله هي أعذب من الحياة نفسها، فالمحن والرزايا محبّةً بالمسيح، وحتّى الموت من أجله هي بداية الفرح الفردوسيّ الأبديّ. وهذا ما ظهر جليًّا مع شهداء القرون الأولى للمسيحيّة، هؤلاء الشهداء الذين نالوا قوّة علويّة، فتقدّموا إلى العذابات بشوق ووجد، مستعذبين الاستشهاد والموت من أجل معشوقهم المسيح.
لقد سبق الربّ وأنبأنا بوقوع الآلام والضيقات التي ستسبق مجيئه الثاني، وأوصى تلاميذه بأن يسهروا ويصلّوا قائلاً: “فاحذروا واسهروا وصلّوا لأنّكم لا تعلمون متى يكون الزمان” (مرقس 13: 33). الصلاة حاجة ماسّة للإنسان، وهي دائمة النفع له، لأنّها تحفظه في وصال مستمرّ مع الله، وتضعه تحت جناحَي حمايته. إنّها تصونه من محبّة الأنا والاعتماد على النفس والانحراف نحو الكبرياء والمجد الباطل ومن الأفكار التي تبذرها في أذهاننا الأرواح الشرّيرة، والتي تتبعها السقطات الفظيعة. ولكنّنا نحتاج إلى الصلاة، أكثر فأكثر، إبّان الآلام والمخاطر المنظورة وغير المنظورة، فتجعلنا نتخلّى عن اعتمادنا على ذواتنا، وتترجم قوّة ثقتنا ورجائنا بالله، وتجذب إلينا معونة الله الكلّيّ القدرة التي تخرجنا، بطريقة عجائبيّة، من مواقف صعبة نحن غارقون فينا.
إنّه لخطأ فادح أن يطلب الواحد منّا أن يرى علامات من السماء يصل بواسطتها إلى معرفة الله. يطلب هذه العلامات، عادة، من يعتمدون على فهمهم البشريّ المادّيّ، فالمعرفة الإلهيّة والإيمان الحيّ والتواضع المبارَك والصلاة النقيّة هم الذين يقودوننا إلى معرفة الله معرفة حقيقيّة، ويحبكون لنا نسيج الحياة الروحيّة، ويعكسون لنا المنطق الروحيّ. وعلى العكس، فالجهل والشكّ وعدم الإيمان وعمى الروح والكبرياء والاعتماد على الذات وحبّ الأنا يعزّزون المنطق البشريّ المادّيّ، فيمسي أصحابهم عاجزين عن معرفة الله، لأنّ المفهوم البشريّ لايستطيع أن يعرف الله ولا يقبل، تاليًا، الوسائل التي يستعملها، والتي تقود النفس إلى معرفته.
*عن اليونانيّة من كتاب العجائب والعلامات.