الموسيقى البيزنطية والعائلة الأرثوذكسية
كريستينا ستافروس
نقتلها إلى العربية جولي عطية
إحدى أقوى الذكريات التي حملتها من نموي في عائلتنا والتي تركت انطباعًا طويل الأمد في نفسي هي ترتيل طروبارية الفصح، أي المسيح قام…، قبل العشاء في كلّ ليلة خلال الفترة الأربعينيّة التي تلي الفصح. نعم صدّقوا، لقد كنّا نرتّلها ثلاث مرات في كلّ ليلة على طاولة العشاء.كوني طفلة، شعرت أحيانًا بالغرابة والإحراج، لكنّ إصرار والدتي على القيام بهذا العمل المتكرّر أتى بثمار كثيرة إلى حياة عائلتنا. ترتيل “المسيح قام” جلب إلى بيتنا الفرح المستمرّ والأزلي لقيامة سيّدنا المجيدة، وجعل من كلمات الترتيلة “المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور” حقيقة معروفة ونوعًا من عقيدة عائلية. فلقد احتُجز لحن الترتيلة وكلماتها في ذاكرتنا بحيث كنّا مستعدّين لترتيلها بثقة قلبية في الكنيسة وفي أيّ وقت احتجنا ذلك، غالبًا حين كنّا نتشارك إيماننا الأرثوذكسي مع المستفسرين.
أثبتت هذه الترتيلة بأنّها صلاة فعّالة استدعت الربّ يسوع المسيح إلى وسط عائلتنا، حين كنّا نجتمع بشكر حول مائدة العشاء. لقد ميّزت فترة الفصح فصارت فترة فرح تعيد تركيز حياتنا كعائلة. كنّا نرتّل هذه الترتيلة صلاة في أوقات الشدّة، طلبًا للمساعدة وإعلانًا للإيمان والرجاء.وكأنّ هذه الترتيلة، التي تعلن الحقيقة الوحيدة والأكثر أهمية في إيماننا والتي هي أنّ المسيح قام! –وهذا هو سبب مسيحيتنا–، أصبحت“الإيصن” في حياتنا معًا، وقاعدة هويّتنا كعائلة. الموسيقى فعّالة جدًّا، بخاصّة تلك المقترنة بالحقيقة.
من الناحية الموسيقية، تنقسم الموسيقى البيزنطية إلى جزأين: الإيصن والميلوس. الميلوس يُلبس اللغة العميقة لحنًا تبشيريًّا لإعلان النص والتبشير به. الإيصن هو النوتة الموسيقية التي تضبط اللحن، ويتم إمساكها فيما يرتَّل المرتّل (أو عدّة مرتّلين معًا في جوقة) التراتيل. الإيصن صعب لأنه يتطلّب عزيمة استثنائية ومركّزة على الثبوت في مكان واحد، من ناحية اللحن، بينما يتحرّك المرتّل في السلّم الموسيقي. غالبًا ما يتمّ إهمال الإيصن لأنّه صعب جدًّا ولأنّ البعض يعتبره غير ضروري. لكنّ الإيصن أساسي لما يحدث في الموسيقى البيزنطية، هو بمثابة عرش يتموضع فيه اللحن حتى لا يضلّ طريقه ويسقط. الإيصن هو نطاق اللحن، وجانب غير قابل للتفاوض عليه في الموسيقى البيزنطية.
إنّ الموسيقى هي ظاهرة أنتروبولوجية عميقة ووسيلة تواصل قد تكون أكثر أساسية من الكلام البشري. الموسيقى هي أيضًا أداة فعّالة جدًّا لتهذيب الذاكرة وحفظها. لقد تمّت بلورة هذه الأفكار عبر العصور من قبل أشخاصٍ مفكّرين (فلاسفة قدماء ومؤلّفين وموسيقيين ومفكّرين)، ووافقت عليها توجّهات العلم الحديث في العصر الحالي. لكنّ تقليد الكنيسة الأرثوذكسية وخبرتها في العبادة، المتواصلين منذ أكثر من ألفي سنة، قد يشكّلان أعظم البراهين على ذلك.
فلنأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنّ اللاهوت الأرثوذكسي بكماله محفوظ ومعلَن ومحقَّق في العبادة التي تتضمّن الخدمات الإلهيّة والأسرار المقدّسة، والتي بدورها تحتوي على تراتيل وصلوات مليئة بالكلمات. تاليًا، لننتبه إلى حقيقة أنّ 90% تقريبًا من هذه الكلمات العبادية “مكسوّة بحلّة اللحن” (غريغوريوس ستاثيس، مشروع الموسيقى الإلهية)، أي أنّ كلمات هذه الصلوات والتراتيل منغّمة ومرتّلة على لحن (من قبل الكاهن والمرتّلين والمؤمنين والشعب كلّه) من دون مرافقة. عندما ننظر في هاتين الحقيقتين مجتمعتين، يظهر دور الموسيقى (اللحن والترتيل) العميق والأساسي في عبادتنا ولاهوتنا الأرثوذكسيين، كما يظهر دورها في مهمّة الكنيسة كمعلِنة وحافظة لإنجيل سيّدنا وربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح. دائمًا ما كانت علاقة التآزر بين العبادة (الليتورجيا) والموسيقى واللاهوت جانبًا طبيعيًّا في الطريقة الأرثوذكسية لكون الشخص مسيحيًّا.
الموسيقى أساسيّة لروح الأرثوذكسية. عندما نرتّل، نؤدّي عمل اللاهوت وعمل الصلاة، ونحافظ على ذكرى وحقيقة موت ربنا يسوع المسيح وقيامته الواهبين الحياة. قد يطرح أحدهم السؤال التالي في هذا الجزء من المقال: أليست الموسيقى البيزنطية وكذلك الترتيل في كنيستنا من شأن المرتّلين والجوقات والكاهن؟
الجواب المقتضب على هذا السؤال هو بالطبع لا، فبما أنّ تراتيل كنيستنا تحمل محتوى إيماننا وتشكّل معظم حياتنا الليتورجية والصلاتية، فالمحافظة على هذا التقليد هو مهمّة المؤمنين جميعًا. التراتيل عمليّة وسهلة المنال من الجميع، هي سهلة كفاية كي يشارك الأولاد فيها ومعقّدة كفاية حتى لا يحدّها الجمال الموسيقي والشعري. لكن للإجابة بشكل أعمق على ذلك السؤال، اسمحوا لي بأن أسأل القارئ سؤالاً: ما هي الهدية الأكثر أهمية التي بإمكاننا منحها لأولادنا؟ أرجو أن تأخذوا لحظة للتفكير قبل متابعة القراءة. اسمحوا لي بأن أجيبكم بأنّ أفضل هدية نمنحها لأولادنا هي المسيح نفسه وكنيسته والإنجيل، الخبر السارّ القائل إنّ محبة الله للبشر حقيقيّة وهي ما تجعلنا ما نحن عليه. منح هذه الهدية صعب كالإيصن، وغالبًا ما يُعتبر غير ضروري في هذا العالم. لكنّ كلّ إنسان يحتاج إلى الإيصن، أي إلى شيء أو شخص يساعدنا على أن نعرف أين كنّا وأين سنذهب.
الخبر السار هو أنّ الله يرغب في إنشاء شركة معنا، في بناء علاقة معنا، في خلاصنا وفي أن نكون معه إلى الأبد في ملكوته السماوي.المسيح هو إيصننا. أفضل هدية نمنحها لأولادنا هي الإيصن: أي المعرفة الشخصيّة والاختبار الشخصي للقصة الحقيقيّة، هذه القصة التي من أجلها نبني حياتنا على قاعدة أن عبر الصليب أتى الفرح لكلّ العالم. دمّر المسيح قدرة الموت والخطيئة والشرير، وأُعطينا حياة جديدة، حياة أبدية! لهذا السبب نحن مسيحيون! أن نأخذ لقب “مسيحي” يعني أنّ هذه الحقيقة الكونيّة هي حقيقتنا. نعيش وفقًا لهذه القصّة ونرتّلها لأننا نؤمن بأنّها حقيقية!
يمكننا أن نمنح أولادنا هذه الهدية عندما نسمح للمسيح وللكنيسة بأن يكونا “الإيصن” في حياتنا. توجد طرائق عديدة لتحقيق ذلك كعائلة، واحدة منها بسيطة لكن قوية وهي تعلّم تسابيح الكنيسة وإنشادها سوية في البيت، مثلاً بمثابة صلاة قبل العشاء أو ضمن صلوات الصباح أو الغروب.
هذا يستدعي المسيح والكنيسة إلى بيتنا ويضعهم في الوسط، ويعطي تراتيل إيماننا “وقت بث على الهواء” للإعلان بقوّة عن محبة المسيح وسلامه. إنّ ترتيل العائلة لتسابيح الكنيسة يسمح أيضًا للمسيح ولقصّة خلاصنا بأن يكونا الإيصن في وسط نشاز رسائل العالم وأنغامه الأخرى، أكان ذلك بمعنى حرفي أو مجازي. إضافة، عندما نرتّل تسابيح الكنيسة معًا، نصبح حاملي تقليد كنيستنا الثمين وغير المحدود الذي يرتكز حول المسيح وآلامه الخلاصيّة المجيدة وقيامته، فنصير بدورنا الإيصن في هذا العالم وله.